الأربعاء، 26 ديسمبر 2018

حوار الأصابع



وليس لهذا العنوان أي علاقة بأي نوع من الإيماءات المقبول منها و المرفوض ، و لأوضح الفكرة أستهل المقالة و إياكم بهذا الموقف الطريف ( أرسل رجل لزوجته بعض الطلبات على برنامج (واتس اب) بعد محادثة قصيرة بينهما إلا أنه تعجب من عدم ردها و خروجها من المحادثة  ، و لما وصل إلى البيت وجد أنها لم تلبِ أياً من طلباته ، فلما سألها عن السبب قالت بكل بساطة :  لأنك كنت تصرخ على (الواتس اب) !! ) و هذا الموقف الواقعي الذي أعرف طرفيه قد  انتهى بطرافة على عكس آلاف الجدالات التي تحصل خلال لحظة كتابة هذه الأحرف  و المُستمرة لأيام متتالية و التي قد تبدأ بشخصين و تجرف لدوامتها ثلاثين شخصاً أو نحو ذلك ، كل واحد من أطراف هذا الجدال يريد أن يكون هو صاحب الكلمة الأخيرة بعدما قام نصف المشاركين بحظر النصف الآخر، أو خرج البعض من المجموعة إن كنا نتكلم عن المجموعات المغلقة، ولن أتعمق كثيراً في أسباب هذا النوع من حروب الأصابع و لكني أظن أن من أهم أسبابها ما يلي :
1.      غياب لغة الجسد و نبرات الصوت ما يسبب فجوة في التواصل.
2.      غزارة بث المعلومات و الأخبار الجدلية والتي تتقصدها بعض وسائل الإعلام لإحداث هذا النوع من الجدالات لجذب المزيد من المتابعين.
3.      سهولة الكتابة و النشر و سرعتها من كل فئات و طبقات المجتمع باختلاف خلفياتهم وقدراتهم و تعليمهم.
4.      الفرصة الكبيرة للتخفي خلف أسماء مستعارة  و إمكانية ارتداء عدد غير محدود من الأقنعة.
5.      ضياع مهارة وضع الأهداف و الاجتهاد لتحقيقها على أرض الواقع ما يجعل كل وقت متاحٌ لخوض معارك الجدل الإلكتروني.
6.      إمكانية تكوين  أمجاد تخضع لقوانين العالم الافتراضي مع استحالة تحقيق هذه المكانة في العالم الحقيقي.
و لتخفيف حدة هذا النوع المزعج من الحوارات توجد بعض الوسائل البسيطة التي يمكن اتباعها ومنها :
1.      الإكثار من السؤال عن مقصد الطرف الآخر لاستيضاح مقاصده بدقة.
2.      أيضاح الفكرة المقصودة بكلمات واضحة ودقيقة ومختصرة قدر الإمكان و يحسُن استخدام الرموز التعبيرية لإضفاء المزيد من الحياة للكلمات المُجردة.
3.      التأني في الرد و مراجعة كلام الطرف الآخر مهما طال الوقت قبل الرد عليه.
4.      تحاشي الحسابات المجهولة قدر المستطاع.
5.      المحافظة على مستوى الألفاظ وعدم الرد على البذاءة بمثلها مهما حصل.
وأخيراً فقد باتت وسائل التواصل الاجتماعي و الإلكتروني جزءاً أصيلاً من حياتنا لا يمكن تجاهله و عليه فينبغي علينا جميعاً التعامل معها بما يناسبها حفاظاً على علاقاتنا و حتى لا يؤذينا حوار الأصابع.

الأربعاء، 19 ديسمبر 2018

قطعوا الشعرة


(الشعرة) أحد التعبيرات المهمة المستخدمة في لغة العرب للتعبير عن دقة الشيء أو حساسيته ، ومن الاستخدامات المشهورة لهذا التعبير ما قاله الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه لبعض التابعين: ( إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعرة كنا نعُدها على عهد رسول الله من الموبقات) ،

و لكن الاستخدام الأشهر على الإطلاق في مقولة كسرى العرب كما لقبه سيدنا عمر بن الخطاب مؤسس الدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان الذي قال: (.. لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت ، قيل وكيف ؟ قال لأنهم إن مدّوها خليّتها و إن خلوها مددتها ) و قد دَرَجت هذه المقولة حتى صارت حكمة تفرض نفسها في كل حديث حول العلاقات فنستذكرها بقول : ( شعرة معاوية) ، ولكن الذي لا يعرفه كثير من الناس ما قاله معاوية قبل  أن يصل لهذا الملخص البليغ من حكمته العميقة ، فقد سأله أعرابي : ( يا أمير المؤمنين ! كيف حكمت الشام عشرين سنة أميراً ثم حكمت بلاد المسلمين عشرين سنة خليفة للمسلمين  ؟ فقال معاوية – والذي أجزم أن السؤال قد أدهشه- : ( إني لا أضع لساني حيث يكفيني مالي ، و لا أضع سوطي حيث يكفيني لساني ، و لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ، فإذا لم أجد من السيف بداً ركبته ، و لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت ، كانوا إذا مدوها أرخيتها و إذا أرخوها مددتها) و بقدر العَجَب الذي وصفه في تدرجه الدقيق من المال إلى السيف ، إلا أن الأعجب من هذا كله أنه لم يعتبر السيف قطعاً للشعرة بل شدٌ لها ، أي أن الأمر الشديد الذي سيجعل سيفه يسفك بعض الدماء فإن الشعرة بينه و بين الناس سترتخي عاجلاً أم آجلاً حفاظاً على علاقاته بهم ،

إن الباحث اليوم عن شعرة معاوية في علاقاتنا سيكون كمن يبحث عن (شعرة) في كومة قش كبيرة قاتمة مليئة بعبارات التخلي السهل و الأنانية المفرطة و الاعتداد الزائف بالنفس من صنف (لا تعبأ بأحد و افعل ما يحلوا لك) أو (من أراد الرحيل فأغلق وراءه الباب) وغيرها من أفكار الأنانية المتطرفة التي تغرس في الإنسان شعوراً بأنه قادر على الاستغناء عن الكل و البقاء لوحده مع أن تركيبة الكون الذي نعيش فيه مبنية على التكامل لا الانفراد ، و كل التعازي لمن اختاروا الدرب الكئيب للحياة من الذين قطعوا الشعرة.