الاثنين، 13 يونيو 2022

جفوة الحبيب بين شوقي والقيرواني

لا يعرف كثير من الناس يعرف أن قصيدة أحمد شوقي ت١٣٥١هـ (مضناك جفاه مرقده) الواقعة في قرابة الثلاثين بيتاً والتي تغنى بها موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب  وتبعه غيره، هي *معارضة لقصيدة (ياليل الصب متى غده) الواقعة في قرابة المائة بيتٍ للشاعر الأندلسي علي القيرواني ت٤٨٨هـ وشدَتْ بها عدة مطربات كنور الهدى وفيروز وغيرهما.

وبالنظر للقصيدتين نجد وصف القيرواني نظرة الحبيب كما يلي:

ينضُو مِنْ مُقْلتِه سيْفاً
وكأَنَّ نُعاساً يُغْمدُهُ

فيُريقُ دمَ العشّاقِ به
والويلُ لمن يتقلّدهُ

كلّا لا ذنْبَ لمن قَتَلَتْ
عيناه ولم تَقتُلْ يدهُ

يا من جَحَدتْ عيناه دمِي
وعلى خدَّيْه توَرُّدهُ

خدّاكَ قد اِعْتَرَفا بدمِي
فعلامَ جفونُك تجْحَدهُ

ثم نجد أن شوقي وصف ذات الحالة كما يلي: 

جَحَدَت عَيناكَ زَكِيَّ دَمي
أَكَذلِكَ خَدُّكَ يَجحَدُهُ

قَد عَزَّ شُهودي إِذ رَمَتا
فَأَشَرتُ لِخَدِّكَ أُشهِدُهُ

ولاشك أن القيرواني بذكره دقائق مشاعر الحبيب تجاه نظرة محبوبته قد أجاد واستطاع أن يلامس أحاسيس العشاق، بعكس شوقي الذي أعاد صياغة الفكرة دون أن يضيف أي معنى من جهته فلا هو ذكر سبب الجراح ولا عن سبب إنكار العينين ذلك.

وكم هو عميق تشبيه عيون المحبوبة بالسيف الذي يقتل عاشقها ويضرجه في جراحه، ولا أظن هذه الحالة تكون إلا في لقاء بعّدت فيه المجافاة الحبيبين، فيكون إنكار العيون علاقة سرّيةً لا يعرفها إلا الحبيبين فيكون وقع النظرة أشد وهي تخفي ذلك الحب، وهذا يذكرنا بالقول المشهور لجرير:

إِنَّ العُيونَ الَّتي في طَرفِها حَوَرٌ
قَتَلنَنا ثُمَّ لَم يُحيِينَ قَتلانا

يَصرَعنَ ذا اللُبَّ حَتّى لا حِراكَ بِهِ
وَهُنَّ أَضعَفُ خَلقِ اللَهِ أَركانا

 والحقيقة أني أرى شوقي قد قصّر في قصيدته عن الاستفاضة في بعض الأوصاف التي تتطلب شرحاً أو توضيحاً -كما في المثال السابق- ،وكأنه اعتمد على خلفية المتلقي ومعرفته بالقصيدة الأصلية، وهو ما جعلها تُصنَّف ككقصيدة صعبة الفهم علينا كعامّة فانحسر تداول حتى نسختها المُغناة بين أسماع النخبة -ولست منهم من قريب ولا بعيد-

ومع هذا فلا يمكن لمتذوق للشعر أن ينكر إبداع شوقي في معارضة القصيدة، فمما تفرد به مضاهاة جمال الحبيب بجمال يوسف عليه السلام بقوله:

الحُسنُ حَلَفتُ بِيوسُفِهِ
وَالسورَةِ إِنَّكَ مُفرَدُهُ

قَد وَدَّ جَمالَكَ أَو قَبَساً
حَوراءُ الخُلدِ وَأَمرَدُهُ

وَتَمَنَّت كُلُّ مُقَطَّعَةٍ
يَدَها لَو تُبعَثُ تَشهَدُهُ

وفي زاوية ثانية نجد القيرواني يضع محبوبته في منزلة المُلك والتصرف بل وبالغ حتى أوصلها مرحلة الألوهية ثم أتى على وصف المسجد الذي سيصلي فيه ليتقرب إليها:

أمُحِبُّكَ يدخُلُ مَجْلسه
فيقال أهَذَا مَسْجدُهُ

لا بُسْط به إلا حُصرٌ
فعسى نعماكَ تمَهِّدهُ

فاِبعَث لمُصَلٍّ أَبْسِطَةً
في الصَّفِّ لِيحْسُن مَقْعَدُهُ

وَعساك إذا أنعَمْتَ به
من صاحِبِهِ لا تُفْرِدُهُ

باِثنين يُغَطّى البَيتُ ولا
يُكْسَي بالفرْدِ مُجَرَّدُهُ

فأتى شوقي وكأنه استحى أن يوصل محبوبته لتلك المنزلة فجعل قلبه هو المعبد الذي يحمل صفات الكنائس ما يبين تأثره بالثقافة الغربية التي احتك بها -وهو ما كان سيستحي منه القيرواني أيضاً وهو الذي عاش في أقصى الغرب ولم ينزل عن ثقافته العربية شبراً- بقوله:

ناقوس القلب يدقّ لهُ
وحنايا الأضلع معبُدهُ

وأثناء اطلاعي المقتضب على الموضوع وجدت أن قصيدة القيرواني (ياليل الصب متى غده) قد بلغت من الشهرة والاستحسان أن عارضها شعراء كبار كثر من بعده، ويبدو أنها كانت من معايير الحكم على الإبداع في منافسات الشعراء في مجالسهم.

لعلي أنتهز الفرصة لأستحث نفسي والسامعين -أعني المهتمين بسماع القصائد المغناة- على وجه الخصوص أن يعودوا لشروح القصائد الفصيحة الصعبة لأن ذلك يفتح لهم أبواب التعمق في القصيدة ومعرفة المراد بها والوصول إلى أقصى درجات المتعة والانسجام مع القصيدة.
_____________________
*المعارضة في الشعر: أن يكتب الشاعر قصيدة على وزن وقافية قصيدة لشاعر آخر، وقد تتحدث عن الموضوع نفسه أو ترد عليه، مثل النموذج الذي بين أيدينا.

الخميس، 9 يونيو 2022

هل نقول للناس حسناً؟ .. أم نجهر بالسوء؟

لما مررت بقوله تعالى في سورة البقرة: (وقولوا للناس حسناً..) تعجبت من هذه الوصية الربانية التي تبدو سهلة التطبيق، ولكنها في يومنا هذا آخذة في الاندثار، مع أن هذه الوصية بالتحديد قد تكررت بشكل مباشر في أكثر من موضع في القرآن الكريم قال تعالى: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) ،وقال جل ثناؤه: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن).

إذاً فإن هذه الوصية المهمة ليست مقتصرة على الكلام العام والمجاملات في المناسبات أو عند ذكر الأموات، بل يدخل فيه حال الجدال والخلاف حتى وإن كان المخالف من (أشد الناس عداوة للذين آمنو).

ولو أتى تجاهل هذه الوصية المؤكدة من باب الغفلة والنسيان لكان الأمر هيناً، ولكن المؤسف في يومنا هذا أن نجد من يتعمد تأويل النص وصرفه عن معناه الظاهر، بل تصل ببعضهم الجرأة أن يستخدم نصوصاً قرآنية أخرى لتبرير سوء أدبهم وفساد ألسنتهم، فيتجاوزون بهذا الموقف سوء أدبهم مع الناس إلى سوء الأدب مع الخالق سبحانه،

فنجد هؤلاء المسيئين يتذرعون بقوله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم..) فيسعى أصاحب البذاءة والإساءة إلى إقحام أنفسهم في خانة المظلومين ليستعملوا الآية درعاً يتقون به نصائح الناصحين، 

ولما تفكرت في هذه الآية، وليقيني أن الآية لا يمكن أن تفتح باباً لظلم الآخرين، وأنّ تخفي الظالم في ثياب المظلوم لن يُقبل عند من فهم الآية فهماً سليماً، وأن الجهر بالسوء ليس مفتوحاً لكل أحد،

خطر بذهني أن حالة الظلم الواردة في الآية تقتضي أن تكون العلاقة بين الظالم والمظلوم علاقة ندية أو علاقة قوي بضعيف، والعلاقة الندية تكون فيه القوى متكافئة ولكن الظالم اقتدر على المظلوم بالكيد والغدر فتمكن منه، وأما الضعف فله حالات ومنها: المرض وضعف الجسم، قلة المال، مرض العقل. وهذه مظاهر للضعف الذاتي، وللضعف مظاهر أخرى معنوية أو خارجية ومنها: ضعف النفوذ، قلة الأنصار. ومثاله قوله تعالى: (حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا).

ولكني أردت أن أجد من أقوال العلماء ما يؤيد هذه الفكرة التي توضح طبيعة العلاقة بين الظالم والمظلوم، فوجدت قولاً دقيقاً للإمام القرطبي في تفسيره قوله تعالى (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم..) قال: (..وقال علماؤنا : هذا إنما يكون فيما إذا استوت المنازل أو تقاربت ، وأما إذا تفاوتت ، فلا تمكن الغوغاء من أن تستطيل على الفضلاء، وإنما تطلب حقها بمجرد الدعوى من غير تصريح بظلم ولا غضب ؛ وهذا صحيح وعليه تدل الآثار)

وهنا نعود للسؤال الأول: هل نقول للناس حسناً؟ .. أم نجهر بالسوء؟

والحقيقة الشرعية والإنسانية المعلومة أن القول الحسن هو الواجب، وأما الجهر بالسوء فلا يكون إلا لهدف واحد وهو إحقاق الحق، فاعلم أنك إن جهرت هنا وهناك بهدف الانتقام والتشغيب وتشويه السمعة فقد خرجت عن الحد المسموح ووقعت في الخطيئة، أتعرف لماذا؟ لأنه تعالى قال في بداية الآية (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول) ثم استثنى لتعرف أن الأصل هو الرفض، 

واليوم تعددت وسائل استرجاع الحقوق وحفظها، عبر الشُرط والمحاكم الشرعية، والجهات الرقابية، وتقديم الشكوى لهذه الجهات يعد من (الجهر) بما وقع عليك من سوء،

وللإمام الشعراوي لفتة لطيفة في تعليقه على الآية: (إنه سبحانه وتعالى يريد أن يحمى آذان المجتمع الإيمانى من قالات السوء.. أى من الألفاظ الرديئة؛ لأننا نعلم أن الناس إنما تتكلم بما تسمع، فاللفظ الذى لا تسمعه الأذن لا تجد لسانا يتكلم به..)

وختاماً: احذر أن تكون ممن التصقت به صفة (الجهر بالسوء من القول) فصار خُلُقهم (السوء) سراً وجهراً.