الأربعاء، 26 ديسمبر 2018

حوار الأصابع



وليس لهذا العنوان أي علاقة بأي نوع من الإيماءات المقبول منها و المرفوض ، و لأوضح الفكرة أستهل المقالة و إياكم بهذا الموقف الطريف ( أرسل رجل لزوجته بعض الطلبات على برنامج (واتس اب) بعد محادثة قصيرة بينهما إلا أنه تعجب من عدم ردها و خروجها من المحادثة  ، و لما وصل إلى البيت وجد أنها لم تلبِ أياً من طلباته ، فلما سألها عن السبب قالت بكل بساطة :  لأنك كنت تصرخ على (الواتس اب) !! ) و هذا الموقف الواقعي الذي أعرف طرفيه قد  انتهى بطرافة على عكس آلاف الجدالات التي تحصل خلال لحظة كتابة هذه الأحرف  و المُستمرة لأيام متتالية و التي قد تبدأ بشخصين و تجرف لدوامتها ثلاثين شخصاً أو نحو ذلك ، كل واحد من أطراف هذا الجدال يريد أن يكون هو صاحب الكلمة الأخيرة بعدما قام نصف المشاركين بحظر النصف الآخر، أو خرج البعض من المجموعة إن كنا نتكلم عن المجموعات المغلقة، ولن أتعمق كثيراً في أسباب هذا النوع من حروب الأصابع و لكني أظن أن من أهم أسبابها ما يلي :
1.      غياب لغة الجسد و نبرات الصوت ما يسبب فجوة في التواصل.
2.      غزارة بث المعلومات و الأخبار الجدلية والتي تتقصدها بعض وسائل الإعلام لإحداث هذا النوع من الجدالات لجذب المزيد من المتابعين.
3.      سهولة الكتابة و النشر و سرعتها من كل فئات و طبقات المجتمع باختلاف خلفياتهم وقدراتهم و تعليمهم.
4.      الفرصة الكبيرة للتخفي خلف أسماء مستعارة  و إمكانية ارتداء عدد غير محدود من الأقنعة.
5.      ضياع مهارة وضع الأهداف و الاجتهاد لتحقيقها على أرض الواقع ما يجعل كل وقت متاحٌ لخوض معارك الجدل الإلكتروني.
6.      إمكانية تكوين  أمجاد تخضع لقوانين العالم الافتراضي مع استحالة تحقيق هذه المكانة في العالم الحقيقي.
و لتخفيف حدة هذا النوع المزعج من الحوارات توجد بعض الوسائل البسيطة التي يمكن اتباعها ومنها :
1.      الإكثار من السؤال عن مقصد الطرف الآخر لاستيضاح مقاصده بدقة.
2.      أيضاح الفكرة المقصودة بكلمات واضحة ودقيقة ومختصرة قدر الإمكان و يحسُن استخدام الرموز التعبيرية لإضفاء المزيد من الحياة للكلمات المُجردة.
3.      التأني في الرد و مراجعة كلام الطرف الآخر مهما طال الوقت قبل الرد عليه.
4.      تحاشي الحسابات المجهولة قدر المستطاع.
5.      المحافظة على مستوى الألفاظ وعدم الرد على البذاءة بمثلها مهما حصل.
وأخيراً فقد باتت وسائل التواصل الاجتماعي و الإلكتروني جزءاً أصيلاً من حياتنا لا يمكن تجاهله و عليه فينبغي علينا جميعاً التعامل معها بما يناسبها حفاظاً على علاقاتنا و حتى لا يؤذينا حوار الأصابع.

الأربعاء، 19 ديسمبر 2018

قطعوا الشعرة


(الشعرة) أحد التعبيرات المهمة المستخدمة في لغة العرب للتعبير عن دقة الشيء أو حساسيته ، ومن الاستخدامات المشهورة لهذا التعبير ما قاله الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه لبعض التابعين: ( إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعرة كنا نعُدها على عهد رسول الله من الموبقات) ،

و لكن الاستخدام الأشهر على الإطلاق في مقولة كسرى العرب كما لقبه سيدنا عمر بن الخطاب مؤسس الدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان الذي قال: (.. لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت ، قيل وكيف ؟ قال لأنهم إن مدّوها خليّتها و إن خلوها مددتها ) و قد دَرَجت هذه المقولة حتى صارت حكمة تفرض نفسها في كل حديث حول العلاقات فنستذكرها بقول : ( شعرة معاوية) ، ولكن الذي لا يعرفه كثير من الناس ما قاله معاوية قبل  أن يصل لهذا الملخص البليغ من حكمته العميقة ، فقد سأله أعرابي : ( يا أمير المؤمنين ! كيف حكمت الشام عشرين سنة أميراً ثم حكمت بلاد المسلمين عشرين سنة خليفة للمسلمين  ؟ فقال معاوية – والذي أجزم أن السؤال قد أدهشه- : ( إني لا أضع لساني حيث يكفيني مالي ، و لا أضع سوطي حيث يكفيني لساني ، و لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ، فإذا لم أجد من السيف بداً ركبته ، و لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت ، كانوا إذا مدوها أرخيتها و إذا أرخوها مددتها) و بقدر العَجَب الذي وصفه في تدرجه الدقيق من المال إلى السيف ، إلا أن الأعجب من هذا كله أنه لم يعتبر السيف قطعاً للشعرة بل شدٌ لها ، أي أن الأمر الشديد الذي سيجعل سيفه يسفك بعض الدماء فإن الشعرة بينه و بين الناس سترتخي عاجلاً أم آجلاً حفاظاً على علاقاته بهم ،

إن الباحث اليوم عن شعرة معاوية في علاقاتنا سيكون كمن يبحث عن (شعرة) في كومة قش كبيرة قاتمة مليئة بعبارات التخلي السهل و الأنانية المفرطة و الاعتداد الزائف بالنفس من صنف (لا تعبأ بأحد و افعل ما يحلوا لك) أو (من أراد الرحيل فأغلق وراءه الباب) وغيرها من أفكار الأنانية المتطرفة التي تغرس في الإنسان شعوراً بأنه قادر على الاستغناء عن الكل و البقاء لوحده مع أن تركيبة الكون الذي نعيش فيه مبنية على التكامل لا الانفراد ، و كل التعازي لمن اختاروا الدرب الكئيب للحياة من الذين قطعوا الشعرة.

الأحد، 2 سبتمبر 2018

التعليم آمال و أحلام (٢)


أستأنف معكم أعزائي القراء ما كنا قد بدأنا الحديث عنه في الجزء الأول من هذه المقالة و قد كان الحديث عن بعض الأفكار المطروحة في كتاب الدكتور ستيفن كوفي (The Leader In Me) والذي كان يتكلم عن متطلبات كل فئة مرتبطة بالمدرسة وأضفت عليه ما تنتظره المدرسة من كل تلك الفئات وكنت قد أتممت الحديث عن الفئة الأولى وهي فئة الطلاب و أنطلق معكم اليوم للحديث عن بقية الفئات التي حددها الكتاب.

ثانياً - أولياء الأمور :
يذكر الدكتور ستيفين كوفي بأنه وفريقٌ معه قاموا بإجراء استطلاع رأي لأولياء الأمور للمرحلة الابتدائية بسؤالهم (ماذا يريد أولياء الأمور من المدرسة ؟ ) فكانت الإجابات مثيرة للاهتمام حيث إن أحداً منهم لم يتطرق للناحية الأكاديمية إطلاقاً فقد كانت أغلب إجاباتهم تتركز على الآتي : القدرة على التأقلم مع الآخرين ، المسؤولية ، تقبل اختلاف الآخرين ، القدرة على حل المشكلات ، التفكير الخلاق ، وهذا كما يراه معاكسٌ تماماً لما كانت تأمله أسرة التسعينات الميلادية من المدرسة و التي كانت تركز على ثلاثة أشياء فقط وهي :إجادة القراءة و الكتابة و الحساب ، و سبب هذا الفرق الشاسع في التطلعات هو أن الأسرة قد أصبحت أكثر تعليماً و وعياً و رغبة في كون ابنهم أو ابنتهم قادرين على التعامل مع الحياة بشكل ملائم بتنمية المهارات الذاتية .

و على الجانب الآخر فلا شك أن للمدرسة أيضاً تطلعات تأملها من أولياء الأمور أختصرها في أمرين : الأول هو الحضور الدائم ، و أعني به الحضور المعنوي الفعال و ليس الجسدي فقط ، و لا يكون الحضور فعالاً إلا بالأمر الثاني و هو محاولة تعزيز أهداف المدرسة على مختلف مجالاتها العلمية و المهارية و الأخلاقية حتى ولو لم تكن في غاية الإقناع لأولياء الأمور لأن توافق البيت مع المدرسة في الأهداف يوفر توازناً كبيراً لدى الطالب أو الطالبة و يجنبهم التنقاض الذي كثيراً ما تكون نتيجته سيئة عليهم.

ثالثاً- المعلمون :
يعتبر الدكتور ستيفن أن للمعلمين رغبات و متطلبات كثيرة و لكنه يرى الأهم هنا هو ما لا يرغبه المعلمون لأنهم بطبيعة عملهم و تعاملهم مع الأطفال و الطلبة يقدمون الكثير لدافع داخلي يحفزهم ، فما لا يريده المعلمون هو إعطاء حصص إضافية على جداولهم ، و في حين أن الدكتور ستيفين يرى أن الحل بعمل قائمة إضافية منذ وقت مبكر لما يُفترض على المعلم أن يُقدمه زيادةً على جدوله ، فإني أظن أن هذه الفكرة جيدة ومنطقية إلا أنها لن تكون مقنعةً كثيراً لمعلم يؤدي حصصاً تفوق نصابه المفترض أصلاً أو يقوم بتدريس عدد يفوق العدد المفترض من الطلاب ، لذلك أجدني مضطراً لإضافة هاتين النقطتين استناداً على الواقع في غالب دول العالم الثالث ، فالمعلم لا يرغب في تأدية جدول يفوق نصاب حصصه المقرر نظاماً و لا أن يُعلّم في فصلٍ مكتظٍ يُضيِّعُ جهودَه و يصيبه باليأس  دون عائد علمي أو تربوي على جيش الأطفال الذي يقف وحيداً أمامه ، و مع ذلك فإن الدكتور ستيفين لم يُغفل ما يريده المعلمون من مدرستهم إلا أن البروفيسور عبدالكريم بكار اختصر كثيراً مما قاله في كتابه مشكلات الأطفال بقوله :( إن المدرسة الجيدة هي التي يتوفر فيها شيئان أساسيان: جدية التعليم و شعور المدرسين فيها بالرضى عن أوضاعهم و أوضاع مدرستهم ، وقد ثبت من مشاهدات كثيرة أن ارتفاع الروح المعنوية للإداريين و المدرسين و شعورهم بالانتماء للمكان الذي يعملون فيه ،يحفز روح التفاؤل لدى الطلاب و يحفزهم على الإقبال على التعليم...)

أما المدرسة فهي تنتظر من معلميها أعلى درجات الانضباط لما للإخلال به من تأثير سلبي على المدرسة ككل من معلمين و إدارة و على العملية التعليمية و التربوية ، و تريد منه فكراً مبدعاً متجدداً لا أن يكون مجرد إنسان آلي يسرد ما في الكتاب و يؤدي مهامه بصورة جامدة و هذا يتطلب منه دوام البحث و الاطلاع في مجال تخصصه و تنمية ما لديه من معلومات و أساليب تعليمية ، فلو كان الطالب هو رأس مال العملية التعليمية فإن المعلم هو روحها و نواتها.
رابعاً - سوق العمل : وقد كان جميلاً أن الدكتور كوفي قد كون فريقاً لاستقصاء أهم الصفات التي يبحث عنها رجال الأعمال في موظفيهم فخرجوا لنا بعشر سمات أساسية وهي : مهارات التواصل ( اللفظي و الكتابي ) ، الأمانة والنزاهة ، مهارات التعامل مع فريق العمل ، المبادرة و تحفيز الذات ، إدارة الذات ، أخلاقيات راسخة حول بيئة العمل ، مهارات التحليل والفهم ،مواكبة التقنية الحديثة ،المهارات التنظيمية و تنسيق العمل ، التفكير الإبداعي. و لعل الكاتب أغفل الحديث عن توفر المهارة أو المعلومة المطلوبة للقيام بوظيفة ما على اعتبار أن هذا معلوم بالضرورة و أن توفر نصف السمات السابقة كافٍ في ظني -على الأغلب- لإيصال الموظف للمستوى المطلوب من العلم أو المهارة ، و الغريب أننا نلاحظ تقارباً كبيراً بينما يتطلع إليه أولياء الأمور و ما يرغبه رجال الأعمال من موظفيهم و هو ما يؤكد تنامي ثقافة أولياء الأمور بما يتطلبه سوق العمل من مهارات فهل المدرسة على ذات المستوى من المعرفة و القناعة؟

و على نفس الصعيد فإن المدرسة تنتظر من رجال الأعمال الدعم والرعاية مادياً ومعنوياً للقيام بالمزيد من البرامج التعليمية و التربوية و هذا ما أقترحه على الوزارة أن تفسح الباب للدعم المباشر للمدارس تحت إشرافها ، فما المانع من قيام بعض رجال الأعمال برصد مكافأة مثلاً للطلاب الذين يحققون نجاحات علمية ما أو للمعلمين المُتقدمين لتنفيذ برامج لا صفية خارج أوقات الدوام الرسمية أو المتميزين على مدار العام ، ناهيك عن توفير الأثاث و الوسائل التعليمية المتطورة لما في ذلك من ارتقاء بالعملية التعليمة و تسهليها ، و أنا على يقين أن لدى الوزارة و إدارات تعليمها الكثير من الأفكار الخلاقة التي تقبع حبيسة الأدراج في انتظار دعمٍ يحييها ، فلماذا لا تُطرح تحت رعاية بعض رجال الأعمال في بعض المدارس كتجربة ، وفي حال نجاحها يتم تعميمها على بقية المدارس بعد تسويقها أيضاً على  رجال أعمال آخرين يحملون من القيم و حب الوطن ما يحفزهم لدعم مثل هذه البرامج النافعة.

و أخيراً :
فقد اتضح لنا من خلال أفكار هذه المقالة أهمية العمل التكاملي و كيفية تسهيل هذا التكامل عبر معرفة متطلبات كل فئة مرتبطة بالمدرسة ، و في ظني أن خلاصة جميع الأفكار السابقة أن العبئ واقعٌ عليهم جميعاً إلا أن المدرسة التي هي واجهة وزارة التعليم تحمل نصيب الأسد من المسؤولية ، المسؤولية التي لو قامت بها كل فئة كما ينبغي لاختلف شكل التعليم لدينا اختلافاً كلياً حتى و لو  قلَّت الموارد و الصرف فالعملية التعليمية تستند بالدرجة الأولى على قيم عميقة يكفي وجودها النهوض بأمة كاملة ، فكيف بشعب عنده من الروح ما يكفي لتشييد مستقبل غزير الإنجازات.

تاريخ نشر المقال : 2016-10-18

التعليم آمال و أحلام (١)


إن أمر التعليم مهم لكل فرد في هذا المجتمع فكل منا إما موظف فيه أو متعلم أو في أسرته من يمثل أحد الفئتين و هما ليستا بقليلتين ، فقد بلغ عدد العاملين في قطاع التعليم العام حسب إحصائية وزارة الخدمة المدنية لعام 1435هـ (513569) خمسمائة و ثلاثة عشر ألفاً و خمسمائة و تسعة و ستون موظفاً ، في حين أن عدد الطلبة التعليم العام المقيدين حتى عام 1435هـ تخطى حاجز السبعة ملايين طالب و طالبة ، فلو أدرجنا التعليم العالي بطلبته و عامليه لجاوز الرقم ثلث سكان المملكة ، إذاً فنحن نتكلم عن ثروة وطنية هائلة ، وهنا تكمن الأهمية و الخطورة معاً.

إن أحد أهم المشكلات التي يواجهها قطاع التعليم هي أن العملية تسير بشكل غير تكاملي فكلٌ يبنى على انطباعات وتصورات تسكن ذهنه دون النظر للعوامل المحيطة و الجهات ذات العلاقة ، فللطالب صورة مُتخيَّلة للمدرسة التي سيلتحق بها لكنها سرعان ما تنهار بمجرد تخطيه بوابة الدخول ، أما أولياء الأمور فيرسمون أبهى صورة لابنهما أو بنتهما حين يبدأ أبناؤهم بالسير في ركب العلم الذي يفاجئهم لا بخوائه وهشاشته فقط بل باقتلاع ما زرعوه طول عمر ابنهما قبل الدراسة ، و المعلم يتصور واقعاً مشرقاً يبنيه لكنه لا يلبث أن يتم سحقه بين إدارة متجمدة و بيئة تعليمية متهالكة ، و الخاسر الأكبر هو سوق العمل المنتظر بشغف انتاج الكوادر الوطنية الشابة -المجبر على توظيفهم أحياناً-  و الذي بمجرد احتضانه لهم يرى بريقهم يتفتت بين يديه ، و هذه هي الأزمة فلكل فئة من هؤلاء تطلعات كبرى حلقة الوصل الوحيدة فيها هي المدرسة.

لقد لخص الدكتور ستيفن كوفي -صاحب الكتاب الشهير العادات السبع للأشخاص الأكثر فعالية- في كتابه (The Leader In Me ) تطلعات كل فئة من هؤلاء حول ما تقوم به المدرسة ، سأذكرها باختصار و أضيف عليها ما تحتاجه أو تنتظره المدرسة من كل فئة من هذه الفئات:

أولاً- الطالب:
و هو رأس المال الذي لو أُهمل لما كان لعملية التعليم أي معنىً ، و مع أن الكتاب وضعه أخيراً إلا أني أبدأ به ، و يذكر الكاتب أن للطالب أربع حاجات رئيسية  و في حين أن من شبه المستحيل قيام المنزل بإشباع كل هذه الحاجات فإن الطلبة يأتون للمدرسة وهم في حالة شراهة نحو هذه الحاجات في حين أن أغلب التربويين يركزون فقط على جانب واحد وهو التحصيل العلمي و هو ما يستنزف جهودهم وأوقاتهم دون عائد كبير ، و الحاجات هي:
أ- الحاجات الجسدية :
و تشمل الأمان ، الصحة الجيدة ، الأكل و الشرب ، التمارين الرياضية ، النظافة. و الظاهر أن أغلب هذه النقاط مفهومة ، لكن دعوني أشيد أولاً ببرنامج (فينا خير) و الذي تبنته وزارة التعليم على مدى عدة سنوات سابقة والذي كان يربي  في الطلبة حس المسؤولية من ناحية متابعة نظافة مدارسهم بطريقة منظمة و سلسة والذي أرجو أن يتم دعمه و تطويره لأن البيئة التعليمية غير النظيفة لا تصلح للخروج بالنتائج المرجوة ، ثم بخصوص ناحية التمارين الرياضية فإني أرى من واقع معرفة أن فترة الحركة الجسدية لم تعد تكفي طلبة المرحلة الابتدائية على الأخص بجميع صفوفها حيث أن مستوى فرط الحركة قد صار في تزايد بسبب أن تسلية الأطفال في بيوتهم لم تعد تتخللها أي حركة كافية لذلك أرجو إعادة النظر إما في عدد حصص التربية البدنية أو طول فترة الفسحة ليُتاح للطالب فرصة كافية من الحركة و الانطلاق و تحرير الطاقة المكبوتة.

ب- الحاجات الاجتماعية و العاطفية:
و تشمل أن يشعر بالتقبل و الترحاب ، التعامل اللطيف ، تكوين الصداقات ، المحبة المتبادلة. و هنا أذكر موقفاً ذكره لي أحد معلميّ الأفاضل حيث أنه درّس طالباً في الصف الثالث الابتدائي و قد سبقت الطالب سمعة سلبية بأنه متمرد و يرفض القيام بفروضه و واجباته ، و بذكاء المربي لم يكن يوجه الطالب لفعل شيء إلا أنه كان يطلب منه مع بداية كل حصة أن يسحب كرسيه و يجلس بجانبه طوال الحصة ، هذه الحركة اليسيرة فاجأت المعلم نفسه في سرعة استجابة الطالب و تفاعله الإيجابي بإحضار الواجب دون أن يطلبه منه أحد ، وقد اتضح لاحقاً الطالب يعاني مشكلة اجتماعية كانت أكبر من قدرة طفل صغير أن يتحملها.

جـ -  الحاجات العلمية و العقلية :
النمو الفكري ، الإبداع ، المنافسة و التحدي. و لاحظوا أعزائي أن هذه النقاط عبارة عن حاجات و ليست أفكاراً تربوية مجردة أو جامدة و لو لم تتمكن المدرسة من توفيرها فإن الطالب سيبحث عنها بشكل أو بآخر و هو ما قد يوقعه في طريق الخطأ ، وأظن أن أغلب معلمي المرحلة الابتدائية على وجه الخصوص سيتفقون معي أن الطالب في هذه المرحلة كثير الأسئلة في أمور قد لا تكون متوقعة في المنهج نفسه ناهيك عن أمور الحياة العامة وهذا دليل الحاجة إلى النمو الفكري ، و أنهم يتصرفون تصرفات غريبة بحثاً عن إبداع جديد أو ابتكار خارق و هذا ذكرني بأحد زملائي في المرحلة المتوسطة حين وضع علبة الألوان المائية داخل قارورة ماء حتى صار اللون داكناً جداً و أخذها للمعلم مفتخراً أنه ينتظر ما سينتج عن هذه الحركة لعل لوناً جديداً يظهر بدمج الألوان جميعاً ، فضحك المعلم و قال لن يحصل شيء ، و لو علم ذلك الأستاذ أن لهذا الطالب رغبة في المحاولة و الابتكار لعرف كيف يوجهه بدلاً من إقفال الباب بهذه الطريقة دون استثمار التوجه الإيجابي لدى الطالب ، أما الحاجة للمنافسة و التحدي فستبدو جليةً لأي شخص يقف في مكان عالٍ في ساحة المدرسة أثناء فترة الفسحة و يرى عدد سباقات الجري التي يقوم بها التلاميذ من تلقاء أنفسهم.

د- الحاجات الروحية :
و هي كلمة عامة يقصد بها المؤلف المكونات الشخصية الداخلية أو الأخلاقية بغض النظر عن الدين  كالشجاعة و المسؤولية و الحماسة و العزيمة و الحياء و البذل و العطاء وغيرها ، فهو يرى أن تغذية هذه الأخلاقيات و صقلها يبني شخصية متوازنة حيث أن أغلب الطلبة يخسرون حقيقة أرواحهم قبل أن يتخرجوا من مراحل التعليم العام فيعيشون حالة من التشوُّش و عدم تقدير الذات.
ولعلي أُأكد على أهمية الجانب الديني الذي لا يراه المؤلف ضرورياً في مرحلة الصِغَر ، حيث أنه يغذي كل ما تحدث عنه المؤلف إضافة إلى رسم نظام حياة أبدية ، و أقتبس نصاً للشيخ محمد الغزالي رحمه الله من كتاب ( الإسلام و الطاقات المعطلة) يتحدث في نفس السياق فيقول : ( الإسلام في كياننا الحسي و المعنوي موضوع وشكل ، و حقيقة و عنوان...فهو يملأ الفراغ  في مقاصدنا الداخلية و الخارجية ، فالمسلم  إنسان يؤمن بالله الواحد الصمد و يصوغ حياته وفق أوامره ونواهيه ، ويوقن بأن المبتدأ منه و المنتهى إليه فهو يجعله له ما بينهما...ويحكمه في شؤونه كلها ، لأنه أولاً لا يرضى غيره حَكَماً ثم لأنه يلتمس الرضوان و السعادة من وراء هذه الطاعة التامة والتسليم المطلق...وأن سره وعلنه لمولاه وحده مقتدياً بنبيه الذي علمه ربه أن يقول: ( قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين * لا شريك له و بذلك أمرت و أنا أول المسلمين) ]الأنعام 162-163[ ، وقد تتعرض هذه العلاقة للضعف و القوة ، و الغموض و الوضوح ، غير أنها موجودة أبداً...)
هذا ما تحدث عنه المؤلف عما يحتاجه الطالب من مدرسته ، و بكل بساطة فإن المدرسة لا تنتظر من الطالب إلا شيئاً واضحاً ومحدداً ، فالمدرسة بحاجة لطالب ملتزم بحضوره ، منضبط في تصرفاته و سلوكياته ، مؤدٍ لواجباته ، لأن المدارس اليوم تعاني من الطالب الذي يبدو كما نقول : ( مقطوع من شجرة ) فعلى قدر الضخ الهائل من العلم و التربية الذي تقدمه المدرسة إلا أن خروج الطالب في نهاية اليوم كفيل بمحو كل تلك الجهود لأن الطالب قلَّمَا يجد من يعزز ما يحصل عليه في المدرسة بعد خروجه منها ، فكيف يمكن تحقيق التكامل في العملية التعليمة لتصب في مصلحة الطالب و المجتمع ؟ هذا ما سأكمل الحديث عنه في المقال القادم بإذن الله.

 تاريخ نشر المقال: 2016-09-29

الاثنين، 6 أغسطس 2018

وجوه بلاستيكية

اشتهر في القرون السابقة استخدام الأقنعة لأغراض مختلفة، من أشهرها استخدام الأوروبيين لها في حفلاتهم التنكرية لإخفاء مجون طبقة النبلاء، أما أشهر المقنعين في تاريخنا الإسلامي فهما المُقنع الكندي والمُقنع الخرساني، والعجيب أن الأول وهو محمد بن ظفر الكندي كان يستخدم القناع لإخفاء جماله وحسن طلعته لكثرة ما كانت تصيبه العين، أما الثاني وهو هشام بن حكيم والذي اتخذ القناع لإخفاء دمامته وقبح منظره.
أما اليوم فما عاد الناس يستخدمون الأقنعة إلا بصفة رمزية ، والسبب في رأيي أن الوجوه ذاتها صارت أقنعة بعد التوسع الكبير و المبالغ فيه في استخدام مستحضرات التجميل و عمليات التجميل أيضاً ، و بعدما كان أمر عمليات التجميل حكراً على كبار نجمات السينما و الشاشات ثم توسع إلى من هن أقل شهرة و إلى المذيعات ، حتى صارت العمليات اليوم شيئاً طبيعياً و متفشياً فانقلبت الآية و صارت عملية الضغط المجتمعي واقعة على رافضات العمليات بدلاً من العكس ، حتى تمدد الهوس إلى الرجال الذين ما عاد كثير منهم يخجل من القيام بهذه العمليات بغرض التجميل فقط .
والصادم هو تصدُّر المملكة لهذا السوق على مستوى العالم العربي ومنافستها على المستوى الدولي (من أكثر عشر دول إنفاقاً) بإنفاق تخطى 2.3مليار ريال في عام 2015م على مستحضرات التجميل وما يقارب 5 مليار ريال في نفس العام على عمليات التجميل، فهل يستطيع أحد أن يضع يده على السبب؟ وهل يشك أحد في أن الأمر يعتبر ظاهرةً سلبية تغلغلت في مجتمع كان يُعرف بأنه محافظ!
وكما تعلمون أعزائي القراء أن دراسة أي ظاهرة مجتمعية لا يمكن أن تعتمد على عامل واحد، لكن في ظني أن السبب الرئيسي لهذه الظاهرة هو استحكام حب المظاهر في عقول الكثيرين، وهو نتيجة طبيعية لتركيز وسائل الإعلام بنوعيها التقليدي والمتجدد على إبراز معالم لجمال مشوه وغير حقيقي نتيجته تعود بكنوز تملأ جيوب المنتفعين من هذه السذاجة التي استفحلت في عقول الراكضين خلف هذا الجمال البلاستيكي المزيف.
إن أكثر ما يحزنني من توسع هذه الظاهرة هو النمو العكسي الحاصل، فكلما غرق الناس في بئر الجمال الظاهري المُصطنع خسروا أضعافه من رصيد جمال المَخبَر، وهو أمر طبيعي لأن التصنُّع لا يمكن أن يتقبل التواضع، والخداع لا يوافق المصداقية، والتطلُّب لا يتماشى مع القناعة.
وأخيراً كل رجائي هو أن يعيد المربون توجيه بوصلة الاهتمامات فيمن يتلقون عنهم كي نعيد إصلاح ما انتشر من أضرار الوجوه البلاستيكية.

كُتب في الأصل بتاريخ 2017-07-13