الجمعة، 1 ديسمبر 2023

في بحر التبريرات


وأظن أن أصل معنى (التبرير) مأخوذ من التزكية، أي جعل العمل (من أعمال البر) أو جعله عملاً سائغاً مقبولاً، وهو في عرفنا اليوم أقرب لمعنى (العُذر).

وأرى للتبرير سببين لا ثالث لهما:

١- ارتكاب خطأ صريح تجاه شخص يهمنا أمره، فيجب علينا عند الاعتذار توضيح سبب وقوعنا في هذا الخطأ ، فكما تعلمون -أعزائي القراء- أن للاعتذار السليم أركانٌ ثلاثة وهي:
◇-الاعتراف بالخطأ.
◇-توضيح سبب الخطأ -المبرر أو الدافع- والاعتذار عنه.
◇-الوعد بعدم تكراره.

ولهذا النوع من التبريرات نوعان الأول مقبول، والثاني مرفوض:
الأول: ذكر المبرر بغرض إثبات حسن النية مع الندم على ما جرى.
الثاني: التبرير بهدف الدفاع عن النفس ومحاولة التملص من الخطأ وإضعاف موقف الطرف المقابل وإيهامه أنه مبالغ أو سيء النية.

٢-أما النوع الثاني من دواعي التبريرات فهو شعورنا أن الطرف المقابل فهم فعلاً عادياً عفوياً على غير مراده، فالفعل هنا ليس خطأً صريحاً ولكن سياقه أو حالة متلقيه قد تجعل الأمر مشوباً بالإساءة كضحكة عابرة، أو تخلف عن حضور مناسبة أوتأخر في التهنئة أو المواساة وهكذا، فيأتي هنا دور التبرير والتوضيح، وقد لا يكون واجباً وضعه في قالب الاعتذار المذكور أعلاه، ولكن التبرير سيتأثر بحالة الطرف المقابل ومبدأ حسن أو سوء النوايا ودرجة العلاقة، ولكني أرى أحسن قوالب التبريرات -إن صح التعبير- في هذا السياق أن تكون بدرجة عفوية الموقف محل الخلاف مع الاهتمام بالتذكير بقوة العلاقة ودرجتها الحقيقية دون مبالغة أو تفريط.

أما أنواع التبريرات كما أراها فتندرج غالباً تحت ثلاثة أنواع:

١- التبرير الحقيقي: وهو ينطبق غالباً على كل ما سبق ذكره، فهو دافع حقيقي وغير مقصود لموقف أدى لخلاف أو سوء فهم، ومزية هذا النوع أنه يأتي على الذهن بعد حدوث الموقف -لأنه حصل عفوياً دون قصد- مع أن ترتيبه الزمني سابق لحصول المشكلة.

٢-تبرير الورطة: وهو موقف يرتكب فيه الفاعل خطأً بغير قصد ولا عذر فيؤلف لنفسه عذراً ينجيه من ورطته، ولو أن شيئاً من هذا قد يكون طبيعياً في علاقات البشر، ولكن التمادي فيه من طباع المستهترين الجبناء.

٣- التبرير المزيف: وهو نوع من أنواع الكذب الصريح فهو مبرر يصنعه المسيء قبل حصول المشكلة أصلاً، ثم يقوم بإلقاء عذره في وجوه المتضررين لإسكاتهم وقطع طريقهم في محاسبته ولومه. 

وهنا يكمن لب الموضوع، فإن طريق التبرير طريق طويل وأحادي الاتجاه غالباً ومتدرج أيضاً، وهو عادة سيئة يميل لاستعمالها الأشخاص الأقل قدرة على احتمال المسؤولية، فنجدهم كثيروا الشرح والتفسير، ويتحاشون الاعتراف بأخطائهم، والأسوأ من هؤلاء أولئك الذين يمارسون الأخطاء عمداً وهم يعلمون أن ما يقومون به خاطيء ولكنهم يتذاكون بنسج أعذار ومبرارت لإخراج أنفسهم من مغبة أفعالهم، 

وما يجهله هؤلاء أن الثقة في تلك المبرارات التي يختلقونها تكاد تكون معدومة عند من اعتاد سماعها، وأن هذا الطريق الذي يسلكونه هو ذات الطريق الذي أسقط كثيراً من الشرفاء في مزالق الفساد والانحطاط، طريق يبدأ بشرارة فكرة خبيثة وينتهي بحريق هائل يحيل المصداقية إلى رماد.

ومما يجدر الانتباه إليه في هذا السياق أن محترفي التبرير هؤلاء لم يحترفوا هذا المجال عبثاً، بل احترفوه لأن قدراتهم عالية في مماهاة الحقائق بالأكاذيب، فيزنوا في كل موقف معيار هذا وذاك بحسب ما يقتضيه الموقف وما تحتاجه حبكة الكذبة ليستمروا في ممارسة أفعالهم المرفوضة.

وهنا نقطة مهمة وتساؤل جوهري، فهل يمكننا اعتبار (التبرير) المزيف -كما وصفناه- مهارة مقبولة مادام المبرَر له يقبلها وهو راضٍ؟ وهل يمكن اعتبار هذه المبررات نوع من أنواع الكذبات البيضاء التي لا تضر أحداً ولكنها تجلب المنافع لأصحابها المهرة في حبكها وحياكتها؟

أقول: إن مجرد مناقشة قبول هذه الفكرة من أصله يحتم على صاحبها مراجعة نفسه ومعدن مصداقيته عند المحيطين به، لأن هذا المبدأ هو أول دركات هذه الحفرة السحيقة التي ضرت المجتمع طويلاً بأيدي المبررين الأنانية.

وأختم بحديث نبوي يصف حال أكثر هؤلاء وهو حديث أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها حين قالت: (سَمِعَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَلَبَةَ خِصَامٍ عِنْدَ بَابِهِ، فَخَرَجَ عليهم فَقالَ: إنَّما أنَا بَشَرٌ، وإنَّه يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضًا أنْ يَكونَ أبْلَغَ مِن بَعْضٍ، أقْضِي له بذلكَ وأَحْسِبُ أنَّه صَادِقٌ، فمَن قَضَيْتُ له بحَقِّ مُسْلِمٍ فإنَّما هي قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أوْ لِيَدَعْهَا) رواه البخاري