السبت، 27 أغسطس 2022

ما تبنيلوش

أتردد على أحد المقاهي المعروفة في جدة، وقد تكونت علاقة مودة بيني وبين المشرف المصري الذي يشرف على الخدمة في المكان، 

وفي أحد أحاديثنا المطولة وهو يحكي لي عن ابنه وبناته وعن مدى فخره بما حققوه من تفوق علمي،

 حكى لي عن ابنته الكبرى التي تخرجت من الثانوية العامة بنسبة ٩٩،٦% وأنها على وشك إتمام سنة الامتياز في كلية الطب مع زوجها الذي كان زميلاً لها منذ الصف الأول الابتدائي،

وعن ابنه الذي تخرج بتفوق من أحد المدارس العالمية بعد أن درس الصف الأول الثانوي في الولايات المتحدة ضمن منحة دراسية قدمتها الحكومة للطلبة المتفوقين، وهو الآن في سنته الأولى كطالب بقسم علم الأجنة،

  ولولا ضيق الوقت لكان حكى لي عن ابنته الصغرى التي تخرجت مؤخراً بتفوق من الثانوية العامة، 

لم أكد أتمالك نفسي عندما كانت تلمع عيناه و يتهدج صوته وهو يحكي كل لقطة من لقطات قصة كفاحه في الغربة التي امتدت ثلاثين عاماً بالتمام والكمال، حتى أنه لما قال: (قضيت في الغربة..) استدرك ثم قال: ( بل هي ليست غربة فقد صار أهل هذا البلد أهلي و ناسي وقد شعرت بوفاء كبير منهم كالذي يكون بين الأهل أو أكثر)، 

ثم قال: (لقد أعطتني هذه البلد فوق ما كنت أتوقع أول ما أتيت، وقد كانت رؤيتي محصورة في شي واحد وهو تعليم أطفالي فسخّرت كل إمكانياتي لهذا الهدف الوحيد)، 

ثم سألني: (أتعرف لماذا يا أستاذ خالد؟)
 قلت: (لماذا؟)
قال : (لأن أبي وصاني بوصية في شبابي مازلت أحفظها و أتبع نصها الذي يقول:( ابني ابنك وما تبنيلوش)

الاثنين، 13 يونيو 2022

جفوة الحبيب بين شوقي والقيرواني

لا يعرف كثير من الناس يعرف أن قصيدة أحمد شوقي ت١٣٥١هـ (مضناك جفاه مرقده) الواقعة في قرابة الثلاثين بيتاً والتي تغنى بها موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب  وتبعه غيره، هي *معارضة لقصيدة (ياليل الصب متى غده) الواقعة في قرابة المائة بيتٍ للشاعر الأندلسي علي القيرواني ت٤٨٨هـ وشدَتْ بها عدة مطربات كنور الهدى وفيروز وغيرهما.

وبالنظر للقصيدتين نجد وصف القيرواني نظرة الحبيب كما يلي:

ينضُو مِنْ مُقْلتِه سيْفاً
وكأَنَّ نُعاساً يُغْمدُهُ

فيُريقُ دمَ العشّاقِ به
والويلُ لمن يتقلّدهُ

كلّا لا ذنْبَ لمن قَتَلَتْ
عيناه ولم تَقتُلْ يدهُ

يا من جَحَدتْ عيناه دمِي
وعلى خدَّيْه توَرُّدهُ

خدّاكَ قد اِعْتَرَفا بدمِي
فعلامَ جفونُك تجْحَدهُ

ثم نجد أن شوقي وصف ذات الحالة كما يلي: 

جَحَدَت عَيناكَ زَكِيَّ دَمي
أَكَذلِكَ خَدُّكَ يَجحَدُهُ

قَد عَزَّ شُهودي إِذ رَمَتا
فَأَشَرتُ لِخَدِّكَ أُشهِدُهُ

ولاشك أن القيرواني بذكره دقائق مشاعر الحبيب تجاه نظرة محبوبته قد أجاد واستطاع أن يلامس أحاسيس العشاق، بعكس شوقي الذي أعاد صياغة الفكرة دون أن يضيف أي معنى من جهته فلا هو ذكر سبب الجراح ولا عن سبب إنكار العينين ذلك.

وكم هو عميق تشبيه عيون المحبوبة بالسيف الذي يقتل عاشقها ويضرجه في جراحه، ولا أظن هذه الحالة تكون إلا في لقاء بعّدت فيه المجافاة الحبيبين، فيكون إنكار العيون علاقة سرّيةً لا يعرفها إلا الحبيبين فيكون وقع النظرة أشد وهي تخفي ذلك الحب، وهذا يذكرنا بالقول المشهور لجرير:

إِنَّ العُيونَ الَّتي في طَرفِها حَوَرٌ
قَتَلنَنا ثُمَّ لَم يُحيِينَ قَتلانا

يَصرَعنَ ذا اللُبَّ حَتّى لا حِراكَ بِهِ
وَهُنَّ أَضعَفُ خَلقِ اللَهِ أَركانا

 والحقيقة أني أرى شوقي قد قصّر في قصيدته عن الاستفاضة في بعض الأوصاف التي تتطلب شرحاً أو توضيحاً -كما في المثال السابق- ،وكأنه اعتمد على خلفية المتلقي ومعرفته بالقصيدة الأصلية، وهو ما جعلها تُصنَّف ككقصيدة صعبة الفهم علينا كعامّة فانحسر تداول حتى نسختها المُغناة بين أسماع النخبة -ولست منهم من قريب ولا بعيد-

ومع هذا فلا يمكن لمتذوق للشعر أن ينكر إبداع شوقي في معارضة القصيدة، فمما تفرد به مضاهاة جمال الحبيب بجمال يوسف عليه السلام بقوله:

الحُسنُ حَلَفتُ بِيوسُفِهِ
وَالسورَةِ إِنَّكَ مُفرَدُهُ

قَد وَدَّ جَمالَكَ أَو قَبَساً
حَوراءُ الخُلدِ وَأَمرَدُهُ

وَتَمَنَّت كُلُّ مُقَطَّعَةٍ
يَدَها لَو تُبعَثُ تَشهَدُهُ

وفي زاوية ثانية نجد القيرواني يضع محبوبته في منزلة المُلك والتصرف بل وبالغ حتى أوصلها مرحلة الألوهية ثم أتى على وصف المسجد الذي سيصلي فيه ليتقرب إليها:

أمُحِبُّكَ يدخُلُ مَجْلسه
فيقال أهَذَا مَسْجدُهُ

لا بُسْط به إلا حُصرٌ
فعسى نعماكَ تمَهِّدهُ

فاِبعَث لمُصَلٍّ أَبْسِطَةً
في الصَّفِّ لِيحْسُن مَقْعَدُهُ

وَعساك إذا أنعَمْتَ به
من صاحِبِهِ لا تُفْرِدُهُ

باِثنين يُغَطّى البَيتُ ولا
يُكْسَي بالفرْدِ مُجَرَّدُهُ

فأتى شوقي وكأنه استحى أن يوصل محبوبته لتلك المنزلة فجعل قلبه هو المعبد الذي يحمل صفات الكنائس ما يبين تأثره بالثقافة الغربية التي احتك بها -وهو ما كان سيستحي منه القيرواني أيضاً وهو الذي عاش في أقصى الغرب ولم ينزل عن ثقافته العربية شبراً- بقوله:

ناقوس القلب يدقّ لهُ
وحنايا الأضلع معبُدهُ

وأثناء اطلاعي المقتضب على الموضوع وجدت أن قصيدة القيرواني (ياليل الصب متى غده) قد بلغت من الشهرة والاستحسان أن عارضها شعراء كبار كثر من بعده، ويبدو أنها كانت من معايير الحكم على الإبداع في منافسات الشعراء في مجالسهم.

لعلي أنتهز الفرصة لأستحث نفسي والسامعين -أعني المهتمين بسماع القصائد المغناة- على وجه الخصوص أن يعودوا لشروح القصائد الفصيحة الصعبة لأن ذلك يفتح لهم أبواب التعمق في القصيدة ومعرفة المراد بها والوصول إلى أقصى درجات المتعة والانسجام مع القصيدة.
_____________________
*المعارضة في الشعر: أن يكتب الشاعر قصيدة على وزن وقافية قصيدة لشاعر آخر، وقد تتحدث عن الموضوع نفسه أو ترد عليه، مثل النموذج الذي بين أيدينا.

الخميس، 9 يونيو 2022

هل نقول للناس حسناً؟ .. أم نجهر بالسوء؟

لما مررت بقوله تعالى في سورة البقرة: (وقولوا للناس حسناً..) تعجبت من هذه الوصية الربانية التي تبدو سهلة التطبيق، ولكنها في يومنا هذا آخذة في الاندثار، مع أن هذه الوصية بالتحديد قد تكررت بشكل مباشر في أكثر من موضع في القرآن الكريم قال تعالى: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) ،وقال جل ثناؤه: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن).

إذاً فإن هذه الوصية المهمة ليست مقتصرة على الكلام العام والمجاملات في المناسبات أو عند ذكر الأموات، بل يدخل فيه حال الجدال والخلاف حتى وإن كان المخالف من (أشد الناس عداوة للذين آمنو).

ولو أتى تجاهل هذه الوصية المؤكدة من باب الغفلة والنسيان لكان الأمر هيناً، ولكن المؤسف في يومنا هذا أن نجد من يتعمد تأويل النص وصرفه عن معناه الظاهر، بل تصل ببعضهم الجرأة أن يستخدم نصوصاً قرآنية أخرى لتبرير سوء أدبهم وفساد ألسنتهم، فيتجاوزون بهذا الموقف سوء أدبهم مع الناس إلى سوء الأدب مع الخالق سبحانه،

فنجد هؤلاء المسيئين يتذرعون بقوله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم..) فيسعى أصاحب البذاءة والإساءة إلى إقحام أنفسهم في خانة المظلومين ليستعملوا الآية درعاً يتقون به نصائح الناصحين، 

ولما تفكرت في هذه الآية، وليقيني أن الآية لا يمكن أن تفتح باباً لظلم الآخرين، وأنّ تخفي الظالم في ثياب المظلوم لن يُقبل عند من فهم الآية فهماً سليماً، وأن الجهر بالسوء ليس مفتوحاً لكل أحد،

خطر بذهني أن حالة الظلم الواردة في الآية تقتضي أن تكون العلاقة بين الظالم والمظلوم علاقة ندية أو علاقة قوي بضعيف، والعلاقة الندية تكون فيه القوى متكافئة ولكن الظالم اقتدر على المظلوم بالكيد والغدر فتمكن منه، وأما الضعف فله حالات ومنها: المرض وضعف الجسم، قلة المال، مرض العقل. وهذه مظاهر للضعف الذاتي، وللضعف مظاهر أخرى معنوية أو خارجية ومنها: ضعف النفوذ، قلة الأنصار. ومثاله قوله تعالى: (حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا).

ولكني أردت أن أجد من أقوال العلماء ما يؤيد هذه الفكرة التي توضح طبيعة العلاقة بين الظالم والمظلوم، فوجدت قولاً دقيقاً للإمام القرطبي في تفسيره قوله تعالى (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم..) قال: (..وقال علماؤنا : هذا إنما يكون فيما إذا استوت المنازل أو تقاربت ، وأما إذا تفاوتت ، فلا تمكن الغوغاء من أن تستطيل على الفضلاء، وإنما تطلب حقها بمجرد الدعوى من غير تصريح بظلم ولا غضب ؛ وهذا صحيح وعليه تدل الآثار)

وهنا نعود للسؤال الأول: هل نقول للناس حسناً؟ .. أم نجهر بالسوء؟

والحقيقة الشرعية والإنسانية المعلومة أن القول الحسن هو الواجب، وأما الجهر بالسوء فلا يكون إلا لهدف واحد وهو إحقاق الحق، فاعلم أنك إن جهرت هنا وهناك بهدف الانتقام والتشغيب وتشويه السمعة فقد خرجت عن الحد المسموح ووقعت في الخطيئة، أتعرف لماذا؟ لأنه تعالى قال في بداية الآية (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول) ثم استثنى لتعرف أن الأصل هو الرفض، 

واليوم تعددت وسائل استرجاع الحقوق وحفظها، عبر الشُرط والمحاكم الشرعية، والجهات الرقابية، وتقديم الشكوى لهذه الجهات يعد من (الجهر) بما وقع عليك من سوء،

وللإمام الشعراوي لفتة لطيفة في تعليقه على الآية: (إنه سبحانه وتعالى يريد أن يحمى آذان المجتمع الإيمانى من قالات السوء.. أى من الألفاظ الرديئة؛ لأننا نعلم أن الناس إنما تتكلم بما تسمع، فاللفظ الذى لا تسمعه الأذن لا تجد لسانا يتكلم به..)

وختاماً: احذر أن تكون ممن التصقت به صفة (الجهر بالسوء من القول) فصار خُلُقهم (السوء) سراً وجهراً.

الجمعة، 20 مايو 2022

حضرتك

من أجمل ما في اللهجة المصرية قولهم (حضرتك) وهي كلمة تميزهم عن كل الشعوب العربية الأخرى، 

وقولهم (حضرتك) يسبق غالباً تقديم طلب أو نداء الأشخاص الذين توجب العادة الاجتماعية احترامهم، كالوالدين والأخوة إذا كان الفارق العمري كبيراً، ويصل ذلك الاحترام حتى لمدير العمل إذا كان فارق العمر واضحاً أيضاً.

وانظر مثلاً إلى الفارق الشاسع بين قول ابنك لك (أعطيك لبن ولا عصير) أو قوله (حضرتك تحب لبن ولا عصير)، وبمقارنة الصيغتين ستتذكر كثيراً من مظاهر مستنكرة مرت بك لأطفال يكلمون آباءهم والحوار لا يبين أياً منهما الأب، ثم تعود وتتذكر كم هو جميل استعمال مثل هذه الكلمات التي تعزز هذا الاحترام الواجب.

صحيح أن مثل هذه المظاهر بدأت تتأثر وتضعف بفعل التقلبات الاجتماعية المتسارعة، لكن بعض الأسر مازالت تحرص عليها وتصر على غرسها في تربية أبنائها، وأتمنى أن تبقى هذه الأخلاقيات الجميلة ولو في محيط الأسرة على أقل تقدير.

اللطيف في الأمر أن هذه الكلمة (حضرتك) انتقلت إلينا في مدن وحواضر غرب المملكة بفعل الأواصر الاجتماعية بين البلدين، ولكنها تغلبت في صيغة مختلفة وهي السخرية، فإذا قال أحدهم للآخر (حضرتك اللي قلت) فلتعلم أن المتكلم رافض هذا القول وهو ساخر منه على الأغلب.

وختاماً أقدم كل التقدير لكم حضرات الأحبة والأصدقاء.

الثلاثاء، 17 مايو 2022

بين أجداث الذكريات

يصعب ألا تغيب في تموجات هذه الأغنية الفيروزية كلما تُهْتَ بين أجداث الذكريات الماضية، ذكرياتٌ قد تكون قررتَ أن تدفنها بيديك،

لم توارِها النسيان لأنك تبغضها كلها، لكن الحياة توجب عليك أن تترك لَبوس الماضي خلفك وتقفز في ثوب المستقبل المُنتَظر الجذاب، كنت تحب أن تكبر ويتصلب جذعك لتتخلص من عودك الرطب، ومن تفاهة الطيش وسذاجة ما كنت تحسبه عقلاً وحكمة،

.. وقد كبرت..

وتخال أنك ابتعدت وتخلصت من كل شيء، لكنك مع كل هذا لن تستطيع التخلص من طوق الحنين الذي أغلق قلبك من جوانبه، إنك لا تحن لشيء كما تفعل لذاتك حين تناديك في صورتها التي لم تعد صورتَها، صورتُها التي غلّفت الغلطة مكنونها لكثرة ما اندمل فيها من جراح، أو لم يندمل، تناديك الضحكات الصاخبة، الصداقات الفارغة، أحلامك التي تبدو اليوم ضائعة..

.. إليك أنت الذي لم يعد أنت..

---------------------------------------------------------
رابط الأغنية:

https://soundcloud.app.goo.gl/eskMB


كلمات الأغنية:

كنّا نتلاقى من عشيّة
ونقعد على الجسر العَتيق
وتنزل على السّهل الضبابة
تمحي المدى وتمحي الطريق

آه وما حدا يعرف بمطرحنا
غير السّما وورق تشرين
ويقللي بحبّك أنا بحبّك
ويهرب فينا الغيم الحزين

يا سنين اللي رحتي ارجعيلي
ارجعيلي شي مرّة ارجعيلي
وانسيني ع باب الطفولة
تا أركض بشمس الطّرقات

يا سنين اللي رحتي ارجعيلي
ارجعيلي شي مرّة ارجعيلي
وردّيلي الضحكات اللي راحوا
اللي بعدا بزوايا الساحات

بتذكّر شو حكيوا عليّي
لما نطرت وإنتَ نسيت
وصار الشتي ينزَل عليِّي
وإجا الصيف وإنتَ ما جيت

يا سنين اللي رحتي ارجعيلي
ارجعيلي شي مرّة ارجعيلي
وانسيني ع باب الطفولة
تا أركض بشمس الطّرقات

يا سنين اللي رحتي ارجعيلي
ارجعيلي شي مرّة ارجعيلي
وردّيلي الضحكات اللي راحوا
اللي بعدا بزوايا الساحات


السبت، 5 مارس 2022

المصريون والدخلاء

يقول عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون : (.. من المُشاهَد أنه إذا نُقل جنس من الأجناس إنساناً كان أو حيواناً أو نباتاً من مسقط رأسه إلى بلد مختلف عن بلد فنيَ ولم يتحول -أي لا يندمج ولا يؤثر في المجتمع الجديد-، 

وبرهان ذلك أن عشرة أمم قد احتلت مصر وكانت مصر مقبرة الجميع، وما استطاع محتلٌ أن يستقر فيها. جاءها اليونان والرومان ثم الفرس والعرب ثم الترك وغير هؤلاء وهؤلاء ولم يترك فيها واحدٌ منهم أثر دمه.

إنما النموذج الذي يشاهد فيها هو ذلك الفلاح ذو السحنة الصادقة في الدلالة على أنه سلالة من أولئك الذي رسمهم مهرة الصناع المصريين على قبور الفراعنة وفي جدران قصورهم منذ سبعة آلاف سنة.) غوستاف لوبون - سر تطور الأمم.
وفي رأيي فإن في كلامه شيء من كبير من الصحة وقليل من الخطأ، فثمّ فرق كبير بين الاحتلال والفتح، وتقييم عامل واحد وهو الصفات الجسمانية يؤدي لقصور كبير في معيار الحكم على مدى تأثير الجنس أو الأمة الدخيلة، 

فلغة مصر الرسمية اليوم هي اللغة العربية، ودينها السائد هو الإسلام، وأكثر عادات أهلها لا تختلف عن أي بلد عربي، كما أن تواجد فروع كبيرة من أبناء القبائل العربية المهاجرة عبر السنين منذ دخول الإسلام وإلى اليوم أمر واضح وتأثيره واضح، وهو ما يؤكد ترحيب المجتمع المصري بالمهاجرين من جزيرة العرب وبادية الشام وغيرها من المناطق العربية المحيطة، 

وخلاف ذلك ما جرى مع المحتلين الذي راموا اغتصاب الأرض والتحكم في الشعب فإن المصريين قد لقنوا كل أولئك دروساً تاريخية لا ينسونها وألقوا بهم وطبائعهم إلى مقابر النسيان والاضمحلال.

الاثنين، 24 يناير 2022

في وداع فقيد العلم والخلق.. أ.د هشام عجيمي

"حياك الله أستاذ خالد"
بهذه الجملة وبنبرته المكية الأبوية الهادئة كان أ.د هشام يستهل مهللاً كل مكالمة بيني وبينه، وكأني أرى ابتسامته من خلف الهاتف، وأظنه كان يعني أن يُرسلها، وكان هذا الاستهلال يدهشني في كل مرة لأني كنت أرى نفسي في عداد طلابه، أو طلاب طلابه، لكنه لم يتوانى عن مناداتي (أستاذ) مع أني في عمر أبنائه..

مازلت أذكر أول مكالمة دارت بيني وبينه والتي كانت بعدما طلبت رقمه عبر رسائل تطبيق (تويتر) صُغتها بعناية كرسالة رسمية موجه لقامة علمية رفيعة، لكنه رد بالرقم فقط و دون أي تعليق، فخشيت أن يكون في طبعه جمود أو ترفع عن محادثة الأغراب، ومع ذلك تجرأت واتصلت وبعد المقدمات والتعريف طلبته في خجل أن أزوره، فأجاب بالترحاب، فسألته عن الوقت المناسب، فأجاب "أنا رجل متقاعد ومتفرغ" فقلت وددت ألا أشغلك عن أي شيء، فضحك وأستغرق في ضحكته الهادئة التي تفيض أدباً " يا أستاذ خالد أنا أبسط من ذلك بكثير فقط كلمني قبل خروجك من بيتك وسأكون في انتظارك"،

وقد صَدَق فلما رأيته كان أكثر تواضعاً وكرماً مما ظننت وما كانت حفاوة رده على الهاتف إلا قبساً من الحفاوة التي كان يضفيها عليّ إذا زرته، لم يبخل بمعلومة، ولم يتجاهل استفساراً، بل كان يعامل أسئلتي كأنها قضاياه الكبيرة والمهمة، فيشغله تساؤلي ويقضي ساعات بعد خروجي من عنده يبحث ويفكر في الجواب، ثم يبادر بالاتصال ويبشرني أنه وجد الجواب وقد يضيف إلى ما استشكلت عنه استشكالات أخرى فيأتيني بالإجابات على طبق من فضة كما يقال، وقد كان يكرر عليّ من وقت لآخر في سياق حواراتنا الأحاديث النبوية في التحذير من كتم العلم، وقد كان خير أنموذج لاتباع تلك الوصايا النبوية.

لم أعرف أ.د هشام عجيمي زمناً طويلاً، فكل المدة التي عرفته فيها كانت آخر سنتين من حياته، ولكنها كانت أقرب إلى الملازمة ألتقيه فيها كلما سنحت الفرصة أو أتواصل معه هاتفياً إذا صعُب اللقاء -وياليتها طالت-

حتى صار يكرمني إذا تغيبت عنه بالسؤال عن حالي وعن سبب انشغالي عنه، وحتى لا يُشعرني بالحرج كان يعبر عن ذلك بكلمة واحدة "وحشتنا" يتبعها بضحكة حانية غير مسموعة لكنها محسوسة، وإذا استفزه موضوع مما يُنشر في مجال تخصصه واهتمامه عبر الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي اتصل بي وناقشني في الموضوع ليخبرني برأيه ومراجعه في ذلك فلما يمتد الحوار الذي قد يتجاوز الساعة يعتذر بقوله "سامحني طولت عليك تعرف احنا المتاقعدين فاضيين" فأقول بالعكس لقد أكرمتني بكل دقيقة منحتني إياها، وأنا صادق فيما أقول،

وخلال معرفتي به عرفته رجلاً هادئاً وقوراً متبسطاً لا يغضبه ولا يستفزه إلا أحد أمرين: 
الأول: التعدي أو إساءة الأدب في حق جناب النبي ﷺ مهما كان التعدي صغيراً أو غير مرئي بعيون العامة.
الثاني: التجني على العلم ومبادئه بأي شكل كان.

وكنت أتذكر قول الشاعر:
 (إن الكريم الذي لا مال في يده ... 
مثل الشجاع الذي في كفه شلل)، إذا أكثرت من سؤاله فيقول: "ليتني عرفتك قبل أن أتبرع بمكتبتي"،وكأنه كان يتمنى أن يمتلك كل مكتبات الدنيا ليتبرع بها جميعاً حباً في نشر العلم، 

نعم لقد تبرع أ.د هشام عجيمي بكل مكتبته، وحتى نتاج جهوده العلمية التي عمل عليها حتى آخر يوم في حياته جعلها جميعاً وقفاً لله تعالى، وحتى يضمن استمرار هذا العمل الصالح استصدر صكاً شرعياً لوقفية الموقع الذي يحوي الوثائق والأبحاث التي ينشرها.

والآن بتّ لا أنسى لحظة وقوفي على قبره، وقد انعقدت الحروف في فمي وعجزت عن وداعه، توجهت نحو القبلة ولم يجر على لساني سوى دعوة واحدة (اللهم إني أشهدك أن الدكتور هشام عجيمي كان يحب نبيك اللهم فبحبه لنبيك ارزقه مرافقته في الجنة) 

الأحد، 9 يناير 2022

الحصار الأقسى

يُقال أن كلَّ شيء نعتادُه يفقد تأثيره علينا وقيمته عندنا،

إلا أني أرى التعازي ومع تكاثرها تزيدنا حَزَناً وألماً، وكأنّ دائرةَ الموت المظلمة باتت تُقلّص فرص النجاة من حولنا، 

وصار المُعزِّي كالمُعزَّى، كلاهما يستحق المواساة، لأنهما يُجدّفان في ذات بحور المآسي الأليمة ذات المصير المحتوم، أو لأنّ كلاً منهما -بموت الفقيد- قد خطى خطوة جديدة نحو حفرته المنتظرة..

هو مشهد لحالة حصار قاسية تُضيّق الخناق على لوحات زاهية مزخرفة تسكن المستقبل البعيد..كم هو بعيد.. وذلك الجناح الأسود الذي يحجب الأفق، ويحلق قريباً من رؤوس غافلة، 

ويقترب.. حتى يصير الكل مكشوفاً تحت حدة جناحه المسنون..