الخميس، 28 سبتمبر 2023

في وداع التربوي المحنك: أ. عمر بن علي عقيلي

لم أستطع حتى اليوم أن أكتب نعياً أو أحرفاً أودّع بها أستاذي الذي عملت تحت إدارته عاماً دراسياً كاملاً، الأستاذ الفاضل والمربي القدير أ. عمر بن علي عقيلي رحمه الله، مع أنه ودع دنيانا قبل قرابة الأسبوعين.

فما تبعثر من أفكاري وذكرياتي المحدودة العميقة معه لم تكن تقوى على الحبر والورق، وبقيَت كالطيف تلازمني كل يومٍ مذ بلغتني صدمة الخبر الأليم، وها أنا أستجمع منها ما استطعت خلال أربع أيام ثقيلة أسرد شيئاً مما أحب قوله عن أستاذي الذي فرقتني عنه الأيام والأقدار..

-صفاته الشخصية-

رجل لا يمكن أن يكون من الأشخاص العابرين، فهو من الرجال الذين يتركون أثراً في النفس، ومع أن ضبطه العام لنفسه وجوارحه شبه تام، إلا أنه قادر على أن يجعل من نظرته وابتسامته وعبوسه بل وحتى صمته رسالة واضحة ومكتملة ولو كانت أحادية الملمح،

هادئ الحركة والنبرة، يوحي هدوءه بالراحة أحياناً، وبالحزم أحياناً أخرى، وكأن له قدرة داخليةً على توجيه الرسائل الخفية التي تصل للنفس مباشرةً، لا يعلو صوت ضحكته على صوته في كلامه، ولكن ملامحه كلها تضحك معه، ليّن في غير ضعف، شديد في غير عنف، متبسطٌ في علو، متواضع في شموخ، كل شيء فيه يدل على الحنكة، ولم أر كارهاً له إلا الكريه،

-اللقاء الأول- 

في عام استلامي وثيقة التخرج من جامعة الملك عبدالعزيز ولأني كنت متأخراً جداً عن زملائي ودفعتي انطلقت بسرعة للتقدم في كل جهة تمر أمامي أو أسمع عنها، ولأن خطتي الوظيفية وقتذاك كانت موجهة لسلك التعليم أردت التقديم في المدارس الخاصة كخطوة أولى، ولكني صُدمت أن كل مدرسة زرتها كانت مغلقة الأبواب لأننا في بداية الإجازة الصيفية، إلا مدرسة دار الرواد، وجدت أبوابها مفتوحة ولكن ممراتها صامتة وفصولها مقفلة،

صعدت إلى مكتب الإدارة وفي ظني أن المبنى مهجور وليس فيه غيري، حتى دخلت مكتباً وإذ بالأستاذ عمر في كامل زيه الرسمي منهمكٌ في شغله وحيدٌ تماماً ومشغولٌ تماماً، سلّمت فرد متعجباً متسائلاً بصمت عن سبب وجودي، فبادرته: جئت لأقدم ملفي للتوظيف، سألني عن تخصصي وأجبته (لغة إنجليزية) فقال ليس لدينا حاجة ولكن أعطني الملف وقد نتصل بك بداية العام الدراسي، فشكرته ومضيت دون أن أسأله عن مركزه في المدرسة.

لم يكن اللقاء مبشراً ولكني كنت أتساءل عن هذا -الموظف- الوحيد في مجمع مدارس ضخم كهذا، بل لعله الوحيد في مجتمع التعليم الخاص بأكمله حسب ما خبِرت.

-اللقاء الثاني-

في بداية العام وبعد دوامة طويلة في التقديمات والمقابلات، حطت رحالي في ذات المدرسة -دار الرواد- التي كنت مستبعداً الانضمام إليها، تفاجأت وقتها بأن ذلك (الموظف) الوحيد الذي التقيته أول الصيف كان هو المشرف العام على المدارس بفرعيها للبنين والبنات، وبعد المقابلات رحب بي وقال لي بأن مقابلتي فاقت التوقعات وأني أول معلم لغة إنجليزية سعودي تقبله المدرسة منذ تأسيسها قبل ثمان سنوات، وأخبرني أنه والطاقم الإداري يعلقون عليّ آمالاً كبيرة للحفاظ على صورة المعلم السعودي حديث التخرج في مادة اللغة الإنجليزية على وجه الخصوص، وكانت تلك مسؤولية ضخمة أشعرني بها ووضعتها نصب عينيّ طوال فترة عملي هناك، وكنت كلما شعرت أني قد أحيد عن الوفاء بها تذكرت كلماته ونظرة عينيه المتفائلة عدت وشددت العزم على التحسين من نفسي، وقد كان.

-اللقاء الأخير-

عرضَت عليّ المدرسة في آخر شهرين من العام الدراسي أن ترقيني إلى وظيفة وكيل، وكان ذلك بتوصية من الطاقم الإداري بالقسم الابتدائي من مدير ووكلاء، وقد وافق عليها الأستاذ عمر مباشرة وطلب منهم استشارتي، ومع أني أبديت الموافقة الأولية إلا أن من عجائب القدر أني تلقيت عرضاً من جهة حكومية بعد عرض الترقية بأسبوع أو أقل، فأجريت المقابلة لديهم وقُبلت، ولما طلبت لقاء الأستاذ عمر لأبلغه بمجريات الأمور، سألني أول الأمر عن عرض المدرسة فقلت له أن العرض أعجبني ولكني تلقيت عرضاً أفضل لدى الجهة الحكومية الفلانية، ومن باب التقدير أخبرته أني أطلبه الاستشارة فيما ينبغي عليّ فعله تجاه العرضين، ومع علمي أن المدرسة كانت تحرص على الإبقاء على كادرها السعودي لأسباب كثيرة، لكنه لم يتردد في أن ينصحني بقبول العرض الآخر ثم أردف: (نحن نشجع الكوادر السعودية ولسنا بخلاء على الوطن، كما أني شخصياً لا أحب أن أقف عقبة أمام مستقبل أحد ولا مستقبلك أنت شخصياً، بل أحب أن يخرج من عندنا سفراء يذكروننا بخير) فأراحني كلامه كثيراً ثم وقفت وسلمت عليه مودعاً بحرارة، فهمس إليّ (لا تنسانا بعدين) فقلت كيف! قال: (إذا صرت ذا منصب أو مكانة رفيعة -وهو ما أراه في مستقبلك- فلا تنسانا) شكرته لحسن ظنه، ومن جديد لم يفارق كلامه المحفز ناظريّ ولا عقلي، ولست أدري وأنا في هذه الحالة العادية أكان يرى شيئاً بالفعل أم أنه أراد تشجيعي، وكم كنت أتمنى أن يحصل شيء مما قال لأفي بوعدي له مرة أخرى وأزوره في مكتبه أو بعد تقاعده وقد تحقق ما كان يراه لمستقبلي المهني.

-أثناء الرحلة-

لا أستطيع إغفال ذكر شخصيات مميزة عملتْ تحت إدارة الأستاذ عمر وكان لها أثر كبير في دعم رؤاه الطموحة دون أن تبخل يوماً بعطائها وجهودها، وقد استفدت شخصياً مما جادوا به من نصح وتوجيه وإدارة، وأذكر منهم: الأستاذ إبراهيم مراد مدير القسم الابتدائي، والأستاذ عماد بكر مشرف مادة اللغة الإنجليزية في المدارس، والأستاذان أحمد الأحمد و محمد علاء وكيلا القسم الابتدائي، والأستاذ ناصر فوزي معلم اللغة العربية، وطاقم معلمي المرحلة الابتدائية بصفة عامة، وغيرهم كثير من مشرفين وزملاء وأساتذة كان لكل واحد منهم هوية وبصمة نافعة لنا كزملاء وللعملية التعليمية التربوية في المدرسة بالعموم، وأكثر من ذكرتُ كان ممن عملت معهم شخصياً في القسم الابتدائي ولكن الفريق أكبر وأوسع من هذا بكثير.

-اللقاء بعد الأخير-

وفي العزاء الذي اكتظ بقامات تربوية ومعلمين وطلبة، رأيت ستار الحزن يخيم على المجتمع التربوي بجدة بمختلف طبقاته، وقد جاء يودع رجلاً قدم ما يُشعر الناظر أنه عاش أكثر من ضِعف عمره الحقيقي، وكأن اسمه ليس عُمَر بل عُمْر، فالأثر الذي يتركه مثله باقٍ بقاء العمر، ففي كم عمرٍ أثر؟ وفي حياة كم أفاد؟

رحمه الله رحمة واسعة وجعل أعماله ثقيلة في ميزان حسناته وشافعة له للدرجات العلى في الجنة.

الجمعة، 15 سبتمبر 2023

ضوء الأحزان

مازال يشغل تفكيري منظر عقد الأنوار الذي يُعلق عادةً لإخبار الناس أن هذا البيت في حداد وأنه يستقبل المعزّين والمواسين، ومع أن الناس اتخذت هذه السمة عادةً متوارثة من وقتٍ قريب لا للإشارة لشيء سوى الدلالة على الموقع فقط، إلا أن هذا المنظر ذا الأنوار المصطفة في السماء صار يطفىء الأنوار في صدري كلما رأيته،

وكأني أرى في هذا العقد صفاً من المعزين الواجمين لهيبة الموت، أو كأنه صف أهل العزاء في ثياب حزنهم، مطأطئين لذكرى فقيدهم، مترحمة عليه نفوسهم، مستسلمة لذكراه قلوبهم، وآخر همساته ولحظة فراقه تستلب ألبابهم وأبصراهم،

أرى كل هذا وذهني يستعيد ألم ذكريات هذا العقد المشؤوم، وهو يتمايل فوق رأسي بمرور الهواء من بين جنبيه، وكأن الأضواء المعقودة فيه تهز رؤوسها نفياً لكل ما تصوره عقلي عنها، ولكن عقلي يصر على رؤية الظلمة في وجه كل (لمبة) استُدعيت لتدل على مواطن الأحزان..