الجمعة، 1 ديسمبر 2023

في بحر التبريرات


وأظن أن أصل معنى (التبرير) مأخوذ من التزكية، أي جعل العمل (من أعمال البر) أو جعله عملاً سائغاً مقبولاً، وهو في عرفنا اليوم أقرب لمعنى (العُذر).

وأرى للتبرير سببين لا ثالث لهما:

١- ارتكاب خطأ صريح تجاه شخص يهمنا أمره، فيجب علينا عند الاعتذار توضيح سبب وقوعنا في هذا الخطأ ، فكما تعلمون -أعزائي القراء- أن للاعتذار السليم أركانٌ ثلاثة وهي:
◇-الاعتراف بالخطأ.
◇-توضيح سبب الخطأ -المبرر أو الدافع- والاعتذار عنه.
◇-الوعد بعدم تكراره.

ولهذا النوع من التبريرات نوعان الأول مقبول، والثاني مرفوض:
الأول: ذكر المبرر بغرض إثبات حسن النية مع الندم على ما جرى.
الثاني: التبرير بهدف الدفاع عن النفس ومحاولة التملص من الخطأ وإضعاف موقف الطرف المقابل وإيهامه أنه مبالغ أو سيء النية.

٢-أما النوع الثاني من دواعي التبريرات فهو شعورنا أن الطرف المقابل فهم فعلاً عادياً عفوياً على غير مراده، فالفعل هنا ليس خطأً صريحاً ولكن سياقه أو حالة متلقيه قد تجعل الأمر مشوباً بالإساءة كضحكة عابرة، أو تخلف عن حضور مناسبة أوتأخر في التهنئة أو المواساة وهكذا، فيأتي هنا دور التبرير والتوضيح، وقد لا يكون واجباً وضعه في قالب الاعتذار المذكور أعلاه، ولكن التبرير سيتأثر بحالة الطرف المقابل ومبدأ حسن أو سوء النوايا ودرجة العلاقة، ولكني أرى أحسن قوالب التبريرات -إن صح التعبير- في هذا السياق أن تكون بدرجة عفوية الموقف محل الخلاف مع الاهتمام بالتذكير بقوة العلاقة ودرجتها الحقيقية دون مبالغة أو تفريط.

أما أنواع التبريرات كما أراها فتندرج غالباً تحت ثلاثة أنواع:

١- التبرير الحقيقي: وهو ينطبق غالباً على كل ما سبق ذكره، فهو دافع حقيقي وغير مقصود لموقف أدى لخلاف أو سوء فهم، ومزية هذا النوع أنه يأتي على الذهن بعد حدوث الموقف -لأنه حصل عفوياً دون قصد- مع أن ترتيبه الزمني سابق لحصول المشكلة.

٢-تبرير الورطة: وهو موقف يرتكب فيه الفاعل خطأً بغير قصد ولا عذر فيؤلف لنفسه عذراً ينجيه من ورطته، ولو أن شيئاً من هذا قد يكون طبيعياً في علاقات البشر، ولكن التمادي فيه من طباع المستهترين الجبناء.

٣- التبرير المزيف: وهو نوع من أنواع الكذب الصريح فهو مبرر يصنعه المسيء قبل حصول المشكلة أصلاً، ثم يقوم بإلقاء عذره في وجوه المتضررين لإسكاتهم وقطع طريقهم في محاسبته ولومه. 

وهنا يكمن لب الموضوع، فإن طريق التبرير طريق طويل وأحادي الاتجاه غالباً ومتدرج أيضاً، وهو عادة سيئة يميل لاستعمالها الأشخاص الأقل قدرة على احتمال المسؤولية، فنجدهم كثيروا الشرح والتفسير، ويتحاشون الاعتراف بأخطائهم، والأسوأ من هؤلاء أولئك الذين يمارسون الأخطاء عمداً وهم يعلمون أن ما يقومون به خاطيء ولكنهم يتذاكون بنسج أعذار ومبرارت لإخراج أنفسهم من مغبة أفعالهم، 

وما يجهله هؤلاء أن الثقة في تلك المبرارات التي يختلقونها تكاد تكون معدومة عند من اعتاد سماعها، وأن هذا الطريق الذي يسلكونه هو ذات الطريق الذي أسقط كثيراً من الشرفاء في مزالق الفساد والانحطاط، طريق يبدأ بشرارة فكرة خبيثة وينتهي بحريق هائل يحيل المصداقية إلى رماد.

ومما يجدر الانتباه إليه في هذا السياق أن محترفي التبرير هؤلاء لم يحترفوا هذا المجال عبثاً، بل احترفوه لأن قدراتهم عالية في مماهاة الحقائق بالأكاذيب، فيزنوا في كل موقف معيار هذا وذاك بحسب ما يقتضيه الموقف وما تحتاجه حبكة الكذبة ليستمروا في ممارسة أفعالهم المرفوضة.

وهنا نقطة مهمة وتساؤل جوهري، فهل يمكننا اعتبار (التبرير) المزيف -كما وصفناه- مهارة مقبولة مادام المبرَر له يقبلها وهو راضٍ؟ وهل يمكن اعتبار هذه المبررات نوع من أنواع الكذبات البيضاء التي لا تضر أحداً ولكنها تجلب المنافع لأصحابها المهرة في حبكها وحياكتها؟

أقول: إن مجرد مناقشة قبول هذه الفكرة من أصله يحتم على صاحبها مراجعة نفسه ومعدن مصداقيته عند المحيطين به، لأن هذا المبدأ هو أول دركات هذه الحفرة السحيقة التي ضرت المجتمع طويلاً بأيدي المبررين الأنانية.

وأختم بحديث نبوي يصف حال أكثر هؤلاء وهو حديث أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها حين قالت: (سَمِعَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَلَبَةَ خِصَامٍ عِنْدَ بَابِهِ، فَخَرَجَ عليهم فَقالَ: إنَّما أنَا بَشَرٌ، وإنَّه يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضًا أنْ يَكونَ أبْلَغَ مِن بَعْضٍ، أقْضِي له بذلكَ وأَحْسِبُ أنَّه صَادِقٌ، فمَن قَضَيْتُ له بحَقِّ مُسْلِمٍ فإنَّما هي قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أوْ لِيَدَعْهَا) رواه البخاري




الجمعة، 27 أكتوبر 2023

أغلى النِعَم

محزن أن نرى بعض الناس يتفاخر ويدعي لنفسه الفضل فيما يحظى من النعم غافلاً أو متغافلاً تياسير الله له وأفضاله عليه وتغاضيه عنه، المحزن حقاً أنهم سائرون في درب مرعب يجهلون نهايته مع أن القرآن يشير إلى مصائر سالكي هذا الطريق، 

وقارون زعيم أولئك المتكبرين، مع أنه ليس أولهم: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)

فما بالكم أنه لما ادعى الفضل لنفسه، ادعاه لأنه كان عالماً بدين قومه فظن أنه حصل على هذه الكنوز عن استحقاق وجدارة، ولو كان كما قال لعلم أن من الهالكين قبله من كان أولى بهذا التفاخر وأقرب لأسباب التكبر، ولكنهم هلكوا لاستكبارهم، فلم يعِ ولم يتعظ.

وعلى النقيض، كان سليمان عليه السلام نبي ابن نبي وملكٌ ملكَ الأرض وما فيها من كائنات، ولكنه لم يستسلم لنشوة السلطة ولم يغتر بالقوة، فقال: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)

عجيب هذا الدعاء المليء خضوعاً واستسلاماً، فيطلب عليه السلام من ربه أن يساعده على شكره شكراً وافياً، ومع أنه نبي ابن نبي لكنه يطلب أن يُحسب (برحمة الله) من عباده الصالحين.
 
واليوم نرى بعض من انتفخ بما يملك من فتات، ويطير هنا وهناك متعالياً متكبراً متسلطاً على الذين هم دونه مرتبةً، أو أضعف منه منعة ولو كانوا خيراً منه وأولى منه بما ملَك، والمؤسف انخداع بعضنا بهؤلاء ومساهمتنا في نمذجتهم وإعلاء مكانتهم وماهم إلا مصائب تطفو فوقنا بلا قيمة ولا معنى.

فليراجع كل واحد منا نفسه، يراجعها في مشاعرها وما تحب وما تكره، ولنحجم ما قد يعترينا من تعالٍ أو تقدم في إعلاء الفارغين، ولنمعن النظر في نعم الله علينا ولنكثر الشكر والتذلل له والاعتراف بفضله تعالى، حتى تدوم هذه النعم.

فإن نعمة الشكر من أغلى النعم.

الأحد، 8 أكتوبر 2023

(فعلَّمني أكثر مما علمتُه) شيء من حكمة الاحترام

(دخل الأصمعي على الرشيد بعد غيبة كانت منه، فقال له: يا أصمعي، كيف أنت بعدنا؟ فقال: ما لاقتني بعدك أرض، فتبسم الرشيد، فلما خرج الناس قال: يا أصمعي؛ ما معنى قولك: "ما لاقتني أرض"؟ فقال: ما استقرت بي أرض؛ فقال: هذا حسن؛ ولكن لا ينبغي أن تكلمني بيد يدي الناس إلا بما أفهمه، فإذا خلوت فعلمني، فإنه يقبُح بالسلطان ألا يكون عالماً؛ لأنه لا يخلو إما أن أسكت أو أجيب، فإذا سكت فيعلم الناس أني لا أعلم إذ لم أجب، وإذا أجبت بغير الجواب، فيعلم من جوابي أني لم أفهم ما قلت. قال الأصمعي: فعلمَني أكثر مما علمتُه)

قلت: في نصيحة الخليفة الرشيد ما قد يفي بحل أكثر مشكلات (الاحترام) بين الناس، فيكفي أن يتجنب المرء قول ما قد يسبب إحراج الآخرين.

وأصل ذلك في قوله ﷺ: (أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربض الجنة لمن ترك المراءَ وإن كان مُحقًّا..) الحديث، فقول الحق ليس كافياً لقوله في كل موقف.

ولكن الفرق في وصية الرشيد أنه علّم الأصمعي محاولة فهم الطرف المقابل -ذا المرتبة الأعلى- كالأب، والأستاذ، والرئيس، وذا الفضل، والحاكم..الخ وتحاشي ما قد يحرجهم أمام الناس، فإن الأدب يوجِب هذا التحسس على الإنسان إن حرَص على علاقته بمن هو أعلى منه مرتبة، لا أن يجعل نفسه في مبارزة إحراج واستعراض معلومات أو مهارات كلامية.

ومشكلة هذا النوع من المبارزات أنه يضع ذا المكانة العالية في إحراج مهما كانت النتيجة، فإن انتصر قالوا: انتصر على ضعيف، وإن انهزم عيروه، وإن سكت ترفعاً اتهموه بالعجز.

وهذا يلفت النظر لإحسان النظر للأمور، لا أن ننجرف -كمتفرجين- خلف ردود الأفعال دون النظر لكل موقف برمته.

أطلت الكلام وما قصدت إلا التعليق على الموقف أعلاه، وما في النفس أكثر.

دمتم بخير.

الخميس، 28 سبتمبر 2023

في وداع التربوي المحنك: أ. عمر بن علي عقيلي

لم أستطع حتى اليوم أن أكتب نعياً أو أحرفاً أودّع بها أستاذي الذي عملت تحت إدارته عاماً دراسياً كاملاً، الأستاذ الفاضل والمربي القدير أ. عمر بن علي عقيلي رحمه الله، مع أنه ودع دنيانا قبل قرابة الأسبوعين.

فما تبعثر من أفكاري وذكرياتي المحدودة العميقة معه لم تكن تقوى على الحبر والورق، وبقيَت كالطيف تلازمني كل يومٍ مذ بلغتني صدمة الخبر الأليم، وها أنا أستجمع منها ما استطعت خلال أربع أيام ثقيلة أسرد شيئاً مما أحب قوله عن أستاذي الذي فرقتني عنه الأيام والأقدار..

-صفاته الشخصية-

رجل لا يمكن أن يكون من الأشخاص العابرين، فهو من الرجال الذين يتركون أثراً في النفس، ومع أن ضبطه العام لنفسه وجوارحه شبه تام، إلا أنه قادر على أن يجعل من نظرته وابتسامته وعبوسه بل وحتى صمته رسالة واضحة ومكتملة ولو كانت أحادية الملمح،

هادئ الحركة والنبرة، يوحي هدوءه بالراحة أحياناً، وبالحزم أحياناً أخرى، وكأن له قدرة داخليةً على توجيه الرسائل الخفية التي تصل للنفس مباشرةً، لا يعلو صوت ضحكته على صوته في كلامه، ولكن ملامحه كلها تضحك معه، ليّن في غير ضعف، شديد في غير عنف، متبسطٌ في علو، متواضع في شموخ، كل شيء فيه يدل على الحنكة، ولم أر كارهاً له إلا الكريه،

-اللقاء الأول- 

في عام استلامي وثيقة التخرج من جامعة الملك عبدالعزيز ولأني كنت متأخراً جداً عن زملائي ودفعتي انطلقت بسرعة للتقدم في كل جهة تمر أمامي أو أسمع عنها، ولأن خطتي الوظيفية وقتذاك كانت موجهة لسلك التعليم أردت التقديم في المدارس الخاصة كخطوة أولى، ولكني صُدمت أن كل مدرسة زرتها كانت مغلقة الأبواب لأننا في بداية الإجازة الصيفية، إلا مدرسة دار الرواد، وجدت أبوابها مفتوحة ولكن ممراتها صامتة وفصولها مقفلة،

صعدت إلى مكتب الإدارة وفي ظني أن المبنى مهجور وليس فيه غيري، حتى دخلت مكتباً وإذ بالأستاذ عمر في كامل زيه الرسمي منهمكٌ في شغله وحيدٌ تماماً ومشغولٌ تماماً، سلّمت فرد متعجباً متسائلاً بصمت عن سبب وجودي، فبادرته: جئت لأقدم ملفي للتوظيف، سألني عن تخصصي وأجبته (لغة إنجليزية) فقال ليس لدينا حاجة ولكن أعطني الملف وقد نتصل بك بداية العام الدراسي، فشكرته ومضيت دون أن أسأله عن مركزه في المدرسة.

لم يكن اللقاء مبشراً ولكني كنت أتساءل عن هذا -الموظف- الوحيد في مجمع مدارس ضخم كهذا، بل لعله الوحيد في مجتمع التعليم الخاص بأكمله حسب ما خبِرت.

-اللقاء الثاني-

في بداية العام وبعد دوامة طويلة في التقديمات والمقابلات، حطت رحالي في ذات المدرسة -دار الرواد- التي كنت مستبعداً الانضمام إليها، تفاجأت وقتها بأن ذلك (الموظف) الوحيد الذي التقيته أول الصيف كان هو المشرف العام على المدارس بفرعيها للبنين والبنات، وبعد المقابلات رحب بي وقال لي بأن مقابلتي فاقت التوقعات وأني أول معلم لغة إنجليزية سعودي تقبله المدرسة منذ تأسيسها قبل ثمان سنوات، وأخبرني أنه والطاقم الإداري يعلقون عليّ آمالاً كبيرة للحفاظ على صورة المعلم السعودي حديث التخرج في مادة اللغة الإنجليزية على وجه الخصوص، وكانت تلك مسؤولية ضخمة أشعرني بها ووضعتها نصب عينيّ طوال فترة عملي هناك، وكنت كلما شعرت أني قد أحيد عن الوفاء بها تذكرت كلماته ونظرة عينيه المتفائلة عدت وشددت العزم على التحسين من نفسي، وقد كان.

-اللقاء الأخير-

عرضَت عليّ المدرسة في آخر شهرين من العام الدراسي أن ترقيني إلى وظيفة وكيل، وكان ذلك بتوصية من الطاقم الإداري بالقسم الابتدائي من مدير ووكلاء، وقد وافق عليها الأستاذ عمر مباشرة وطلب منهم استشارتي، ومع أني أبديت الموافقة الأولية إلا أن من عجائب القدر أني تلقيت عرضاً من جهة حكومية بعد عرض الترقية بأسبوع أو أقل، فأجريت المقابلة لديهم وقُبلت، ولما طلبت لقاء الأستاذ عمر لأبلغه بمجريات الأمور، سألني أول الأمر عن عرض المدرسة فقلت له أن العرض أعجبني ولكني تلقيت عرضاً أفضل لدى الجهة الحكومية الفلانية، ومن باب التقدير أخبرته أني أطلبه الاستشارة فيما ينبغي عليّ فعله تجاه العرضين، ومع علمي أن المدرسة كانت تحرص على الإبقاء على كادرها السعودي لأسباب كثيرة، لكنه لم يتردد في أن ينصحني بقبول العرض الآخر ثم أردف: (نحن نشجع الكوادر السعودية ولسنا بخلاء على الوطن، كما أني شخصياً لا أحب أن أقف عقبة أمام مستقبل أحد ولا مستقبلك أنت شخصياً، بل أحب أن يخرج من عندنا سفراء يذكروننا بخير) فأراحني كلامه كثيراً ثم وقفت وسلمت عليه مودعاً بحرارة، فهمس إليّ (لا تنسانا بعدين) فقلت كيف! قال: (إذا صرت ذا منصب أو مكانة رفيعة -وهو ما أراه في مستقبلك- فلا تنسانا) شكرته لحسن ظنه، ومن جديد لم يفارق كلامه المحفز ناظريّ ولا عقلي، ولست أدري وأنا في هذه الحالة العادية أكان يرى شيئاً بالفعل أم أنه أراد تشجيعي، وكم كنت أتمنى أن يحصل شيء مما قال لأفي بوعدي له مرة أخرى وأزوره في مكتبه أو بعد تقاعده وقد تحقق ما كان يراه لمستقبلي المهني.

-أثناء الرحلة-

لا أستطيع إغفال ذكر شخصيات مميزة عملتْ تحت إدارة الأستاذ عمر وكان لها أثر كبير في دعم رؤاه الطموحة دون أن تبخل يوماً بعطائها وجهودها، وقد استفدت شخصياً مما جادوا به من نصح وتوجيه وإدارة، وأذكر منهم: الأستاذ إبراهيم مراد مدير القسم الابتدائي، والأستاذ عماد بكر مشرف مادة اللغة الإنجليزية في المدارس، والأستاذان أحمد الأحمد و محمد علاء وكيلا القسم الابتدائي، والأستاذ ناصر فوزي معلم اللغة العربية، وطاقم معلمي المرحلة الابتدائية بصفة عامة، وغيرهم كثير من مشرفين وزملاء وأساتذة كان لكل واحد منهم هوية وبصمة نافعة لنا كزملاء وللعملية التعليمية التربوية في المدرسة بالعموم، وأكثر من ذكرتُ كان ممن عملت معهم شخصياً في القسم الابتدائي ولكن الفريق أكبر وأوسع من هذا بكثير.

-اللقاء بعد الأخير-

وفي العزاء الذي اكتظ بقامات تربوية ومعلمين وطلبة، رأيت ستار الحزن يخيم على المجتمع التربوي بجدة بمختلف طبقاته، وقد جاء يودع رجلاً قدم ما يُشعر الناظر أنه عاش أكثر من ضِعف عمره الحقيقي، وكأن اسمه ليس عُمَر بل عُمْر، فالأثر الذي يتركه مثله باقٍ بقاء العمر، ففي كم عمرٍ أثر؟ وفي حياة كم أفاد؟

رحمه الله رحمة واسعة وجعل أعماله ثقيلة في ميزان حسناته وشافعة له للدرجات العلى في الجنة.

الجمعة، 15 سبتمبر 2023

ضوء الأحزان

مازال يشغل تفكيري منظر عقد الأنوار الذي يُعلق عادةً لإخبار الناس أن هذا البيت في حداد وأنه يستقبل المعزّين والمواسين، ومع أن الناس اتخذت هذه السمة عادةً متوارثة من وقتٍ قريب لا للإشارة لشيء سوى الدلالة على الموقع فقط، إلا أن هذا المنظر ذا الأنوار المصطفة في السماء صار يطفىء الأنوار في صدري كلما رأيته،

وكأني أرى في هذا العقد صفاً من المعزين الواجمين لهيبة الموت، أو كأنه صف أهل العزاء في ثياب حزنهم، مطأطئين لذكرى فقيدهم، مترحمة عليه نفوسهم، مستسلمة لذكراه قلوبهم، وآخر همساته ولحظة فراقه تستلب ألبابهم وأبصراهم،

أرى كل هذا وذهني يستعيد ألم ذكريات هذا العقد المشؤوم، وهو يتمايل فوق رأسي بمرور الهواء من بين جنبيه، وكأن الأضواء المعقودة فيه تهز رؤوسها نفياً لكل ما تصوره عقلي عنها، ولكن عقلي يصر على رؤية الظلمة في وجه كل (لمبة) استُدعيت لتدل على مواطن الأحزان..

الثلاثاء، 6 يونيو 2023

شوك وشكوك

لن يعتريك شعور (المُنبتّ) الذي لم يقطع أرضاً ولم يبق ظهراً، كمِثل ما يعتريك إذا وقعتَ في حيرة خذلان الأحبة والأقربين، خذلان لا تعرف مبدأه من منتهاه، تتقلب فيه بين ظلام الذنب وسيف الحق،

فالكل ينثني إلى عزلة كثيبه الكئيب، آملاً جريَ ماء الحقيقة كي تروي شروخ حشائش (تصبّرت) لمّا جفّف غُول الشك يقينها، وزرع في جسمها الأشواك، 

وتشرئب تلك النفس الهزيلة كلما رفرف جناح تحسبه جناح الخلاص، فتُخيّب ظنها صفعة جناح التخلّص، وما أسهل التخلص، وما أصعبه.. وما أقسى صفعته.

صفعة تَذهَب بالبصر وقتاً، حتى يعود وقد انسلخت الدنيا عن ألوانها وتعرّت في بياض يغلبه سواد.. وطعنة السؤال الحائر لا تبرد ولا تلين، أخاذل أنا أم مخذول !!

السبت، 22 أبريل 2023

ملابس أطفال مكة في عيد الفطر قبل قرن من الزمان

🔸️يقول الشيخ محمد عمر رفيع رحمه الله (1317هـ - 1398هـ)

(..وكان لأهل مكة اهتمام واعتناء بتجميل ألبسة أطفالهم في عيد الفطر للمباهاة وإظهار النعمة والسخاء في الصرف، فقد كانت لي جبة من المخمل الأسود مرصعة في وسط الظهر، وعلى سحاف الذيل وأطراف الأكمام بكواكب (أزارير من فضة) مطلي بعضها بالذهب،

ومع هذه الجبة شاية من قماش يسمى (ريزة) وهو قماش محاك بالحرير وخيوط الفضة مطلية بالذهب، وعمامة من الخيزران -يقصد طاقة العمامة- المُلبس بالمخمل الأسود من جنس الجبة، وفي وسط الرأس قرص من الفضة من صنع محلي مزخرف،

ويلف على العمامة قطعة من شاش أبيض، ثم يلبَّس هذا الشاش بلفائف مطرزة بالقصب الذهبي الوهاج، ويحتزم على الشاية بحزام من المخمل من لون الجبة ما كان من الفضة من صنع محلي.

هذه التقاليد في لباس الأطفال دخلت في خبر كان، فقد اقتصر اللباس على الثوب والكوت من الأقمشة الحريرية، ومشلح صغير على طوله، وغترة بيضاء إما سادة أو محلاة بتطريز من القصب، وبدل الشطافة عقال صغير مقصب.)

🔸️أما الشيخ محمد علي مغربي رحمه الله (1334هـ - 1417هـ) فقد أضاف أن أهل الحجاز كانوا يحرصون على أن يلبس الأولاد الجبة والعمامة، أما الجبة فيصنعها الخياط، ولكن مشكلة العمامة ليست فيها بل في لفها..

ثم يقول:( ..ولكن هناك رجال اشتهروا بالتفنن في إتقان لفة العمامة لتظهر بشكل جميل.. وكان الناس وخاصة الصغار الذين لا يلبسون العمائم إلا في المناسبات يلجؤون إلى هؤلاء المشاهير في لف العمامة ليقوموا بلف عمائمهم،

وكان من أشهرهم في مدينة ‎جدة الشيخ إبراهيم الصبان -من كبار تجار الجلود- وكنا نلجأ إليه في المناسبات الهامة كالأعياد أو الحفلات المدرسية بعمائمنا ليلفها لنا،

وكنا نقضي الساعة تلو الساعة انتظاراً لأخذ العمامة من كثرة إقبال الناس على الرجل، ونراه وهو عاكف على لف العمامة تلو الأخرى دون ضجر، وقد انتهى عهد العمامة بعد أن شاع لبس العباءة العربية والعقال..)

جميع الصور منقولة من حساب الأستاذة غادة المهنا أبا الخيل على تويتر @GAbalkhail

الأحد، 12 فبراير 2023

يانور العين

كنت منذ مدة أستمع لبعض الأغاني الخليجية القديمة وأكثرها لطلال مداح -رحمه الله- ومحمد عبده، ثم فاجأني اليوتيوب بعرض أغنية (يانور العين) لفنان كويتي لم أكن أعرفه واسمه (يوسف المطرف-رحمه الله-)، وما جهلي به إلا لضعفي في الفن الخليجي بشكل عام وليس نقصاً فيه أبداً.

سمعت الأغنية بسرعة -أي بدون تركيز- لأني كنت أقود السيارة، ولما رجعت البيت وجدتني أبحث عن تلك النغمة التي مرت على أسماعي ومازالت تعزف صدى لحنها في زاوية كانت ساكنة في أقصى عقلي،

فلما وجدتها، وجدتني أثبت التشغيل عليها، وجعلتها تتكرر وتترردد على مدى يومين شبه كاملين، في غدوتي وروحتي وأثناء عملي، أسمها بإمعان وعرضاً بلا استماع.

ثم صرت أسأل نفسي: مالذي علّق هذه الأغنية بالذات في ذهني مع أني لا أرى في كلماتها أو أدائها أي تعقيدات موسيقية أو قفزة فنية تخلتف عما ألفته في الفن من أعلاه إلى منتهاه.

أهو اللحن؟ أهي الموسيقى؟ أم الأداء؟

فوجدت أخيراً أن يوسف المطرف -رحمه الله- لم يكن يغني، بل كان في حالة اندماج تام بالكلمات واللحن والعود، حتى استطاع أن يكون هو المتكلم نفسه في كلمات الأغنية، ولقد كنت أسمع تهدج النفس في صدره مع خروج الكلمات وارتفاع نبرته ثم انخفاضها تبعاً للحالة الموصوفة،

كل ذلك كان في كفة وتعابير وجهه ولمعة عينيه كانت في كفة ثانية.

أليس هذا ما ينسميه (الإحساس)، بلى هو كذلك وهو أيضاً ما افتقدته أكثر الأعمال الفنية اليوم.

والحقيقة أني وبعد كل مرات تكرار الأغنية بحثت عن تسجيلات أخرى لها، فوجدت أكثر من تسجيل للفنان نفسه ولكني لم أجد فيها ذات الإحساس في التسجيل الأول مع أن كلمات الأغنية كان ناقصة فيه، ثم وجدت لابنه (مطرف المطرف) أكثر من تسجيل للأغنية نفسها وهي جميلة خصوصاً الذي كان في موسم الرياض، وأيضاً لم يكن شيء بتدفق إحساس التسجيل الأول عام ١٩٩٣م

وأخيراً رحم الله الفنان يوسف المطرف وغفر له