الأحد، 21 يوليو 2024

جدل في الجدل

والجدل باب واسع لايمكن إغلاقه في عالم التواصل البشري، ومع أن من الناس من يراه شراً محضاً، وأن منهم من قصر خير حياته عليه، فإنه يبقى أصلاً أصيلاً في طبع كل البشر. قال تعالى: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً) (الكهف:٥٤)

وكون الجدل بكل أشكاله -منطوقاً كان أو مكتوباً- وفي كل مجالاته -شرعياً كان أو اجتماعياً أو حتى رياضياً- سيبقى رفيقاً لنا كبشر طبيعيين فيحسُن بنا أن نعرف أنواع الناس في الجدل، وقد وجدت الناس على خمسة أصناف:

١- مجادل عن حق واضح: وهو المدافع عن حقائق لا تقبل الخلاف، كثوابت العلم المُقرة، ومبادئ الإنسانية الصريحة، ومسلّمات الدين عند أتباع كل دين ومذهب، ويدخل فيها ما يؤيدها من أعراف واصطلاحات توافَق الناس عليها. قال تعالى على لسان قوم نوح عليه السلام: (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) (هود:٣٢)، ومن يستطيع اليوم أن ينكر أن سيدنا نوح كان يجادل قومه دفاعاً عن حق واصح؟

٢- مجادل عن باطل واضح: وهم أتباع هوىً، أو عباد مصالح، أو منحرفون تمكن الشر من قلوبهم فصاروا أتباعه، وسخّروا أنفسهم وما يملكون لخدمته وهم على علم أنهم على خطأ ولكن غلبتهم أهواؤهم وشهواتهم، والباطل الواضح هو نقيض كل ما يعتبر حقاً واضحاً. قال تعالى: (..يجادلون في الحق بعدما تبين لهم..) الآية (الأنفال:٦).

٣- إمعة: يقول -في نفسه- إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت كما وصفه سيدنا عمر بن الخطاب، أو كما قال دريد بن الصمة:

وما أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشدِ

وما ورد في وصف سيدنا عمر وبيت ابن الصمة يصبان في قدح الحكمة الدارجة اليوم : (الموت مع الجماعة رحمة) وعلى انحراف استعمال هذه المعاني كمبرر للتبعية العمياء فهو أهون -على فداحته- ممن يجادل نصراً للأشخاص وإعراضاً عن الأفكار، ويقع هؤلاء غالباً في مرتبة الغوغاء، الذين يستعملهم أهل الشر والخبث وقوداً لمعاركهم، ملبسينهم ثوب أصحاب القضية أمام مخالفيهم، وما هم إلا إمعات خاوية مشحونة بحماس تجهل مآلاته، ومشكلة بعض هؤلاء قبولهم مرتبة الإمعة ليس جهلاً بخطأ الفكرة وإنما نصراً و(فزعة) لأشخاص يرنوهم أقرب إليهم من مخالفيهم -ولو كان الكل قريب- ولكنهم في جهل كبير من سوء الموضع الذي يضعون أنفسهم فيه. 

وقد حذر تعالى نبيه والمؤمنين من الجدال عن أهل الباطل ولو كان باطلهم خفياً وضررهم غير واضح لأن في هذا سند لباطلهم. قال تعالى : (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً*يستخفون من الناس ولا يستخون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً*ها أنتم هؤلاء جادلتهم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً) (النساء:١٠٧-١٠٩)

٤- مجادل في رأي مختلط: والمعنى أن يجادل الإنسان في قضية غير محسومة، أو أن الخلاف فيها سائع، وقد يكون الفصل في أثر ما فيها من خير وشر يعود لظرف الشخص نفسه وأثر عمله أو رأيه إن كان محدوداً على ذاته أو أنه يؤثر على من حوله أو على المجتمع عامةً، والصواب والحال كذلك ألا يطول الجدل وألا يتوسع إلا لضرورة. قال ﷺ: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً..) الحديث، حسنه الألباني.


٥- المجادل الأصفر: وهو الذي لايهدف لنتيجة معينة إنما غرضه الشق على من يقابله أو التهرب من إعلان الحقيقة، فنجده يكثر الأسئلة وتشعيب الموضوع وحشد المغالطات وتعقيد سبل الحوار بتكبير الصغائر وتصغير الكبائر والإغراق اللفظي أحياناً للحيد عن لب الموضوع، وأوضح مثال لهذا النوع سلوك بني إسرائيل حين أُمروا بذبح (بقرة)، ويهتم أكثر دارسي هذه القصة بما وضعته بني إسرائيل على نفسها من أعباء، لكن يغفل كثير منهم عن أسوأ آثار تلك الحالة الجدلية العبثية ألا وهو تعطيل إحقاق الحق أمداً طويلاً الامتثال لأمر الله بذبح البقرة ليعرف الناس حكم الشرع في جريمة قتل وقعت وكشف القاتل الحقيقي. (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياتهم لعلكم تعقلون) (البقرة:٧٣)  وأسميت هذا النوع أصفراً لشبه أسلوبه بلون البقرة.

وأخيراً: فمن المعلوم أن نصيحة أهل الحكمة المتكررة إنما هي في اجتناب الجدال ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، ولكن لا يمكن أن يعني هذا الترفع التخاذل والضعف وترك الباب مفتوحاً ليعيث أهل الفكر الباطل لتفشية باطلهم دون نقاش أو تبيبن، فبيان الحق واجب وإذا استوفى حقه أتى الترفع وترك العبث لأهله.

قال ابن الرومي:

لذوي الجِدالِ إذا غَدَوْا لجِدالِهم
حُجَجٌ تضلُّ عن الهدى وتجُورُ

وهُنّ كآنيةِ الزُّجاج تصادمتْ
فهَوَتْ، وكلّ كاسرٌ مكسورُ

فالقاتلُ المقتولُ ثَمَّ لِضَعْفِه
ولِوَهْيِه، والآسِرُ المأسورُ