(الشعرة) أحد التعبيرات المهمة المستخدمة في لغة العرب للتعبير عن دقة
الشيء أو حساسيته ، ومن الاستخدامات المشهورة لهذا التعبير ما قاله الصحابي الجليل
أنس بن مالك رضي الله عنه لبعض التابعين: ( إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم
من الشعرة كنا نعُدها على عهد رسول الله من الموبقات) ،
و لكن الاستخدام الأشهر على الإطلاق في مقولة كسرى العرب كما لقبه
سيدنا عمر بن الخطاب مؤسس الدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان الذي قال: (.. لو أن
بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت ، قيل وكيف ؟ قال لأنهم إن مدّوها خليّتها و إن
خلوها مددتها ) و قد دَرَجت هذه المقولة حتى صارت حكمة تفرض نفسها في كل حديث حول
العلاقات فنستذكرها بقول : ( شعرة معاوية) ، ولكن الذي لا يعرفه كثير من الناس ما
قاله معاوية قبل أن يصل لهذا الملخص
البليغ من حكمته العميقة ، فقد سأله أعرابي : ( يا أمير المؤمنين ! كيف حكمت الشام
عشرين سنة أميراً ثم حكمت بلاد المسلمين عشرين سنة خليفة للمسلمين ؟ فقال معاوية – والذي أجزم أن السؤال قد
أدهشه- : ( إني لا أضع لساني حيث يكفيني مالي ، و لا أضع سوطي حيث يكفيني لساني ،
و لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ، فإذا لم أجد من السيف بداً ركبته ، و لو أن بيني
وبين الناس شعرة ما انقطعت ، كانوا إذا مدوها أرخيتها و إذا أرخوها مددتها) و بقدر
العَجَب الذي وصفه في تدرجه الدقيق من المال إلى السيف ، إلا أن الأعجب من هذا كله
أنه لم يعتبر السيف قطعاً للشعرة بل شدٌ لها ، أي أن الأمر الشديد الذي سيجعل سيفه
يسفك بعض الدماء فإن الشعرة بينه و بين الناس سترتخي عاجلاً أم آجلاً حفاظاً على
علاقاته بهم ،
إن الباحث اليوم عن شعرة معاوية في علاقاتنا سيكون كمن يبحث عن (شعرة)
في كومة قش كبيرة قاتمة مليئة بعبارات التخلي السهل و الأنانية المفرطة و الاعتداد
الزائف بالنفس من صنف (لا تعبأ بأحد و افعل ما يحلوا لك) أو (من أراد الرحيل فأغلق
وراءه الباب) وغيرها من أفكار الأنانية المتطرفة التي تغرس في الإنسان شعوراً بأنه
قادر على الاستغناء عن الكل و البقاء لوحده مع أن تركيبة الكون الذي نعيش فيه
مبنية على التكامل لا الانفراد ، و كل التعازي لمن اختاروا الدرب الكئيب للحياة من
الذين قطعوا الشعرة.
وضعت يدك على جرح إنساني انتشر بين المجتمعات و للأسف بقناعة مريضة.
ردحذفأحسنت استاذي الفاضل، احسن الله إليك. 💐
تقديري لقلمك و إبداعك، 💐